للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- الأدلة: استدل بعض أصحاب الأقوال بأدلة، وهي كما يأتي:

أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:

١ - الحرمة الثابتة في الشريعة لا تتوقف على الإرضاع من الثدي، بل المدار على وصول اللبن إلى الجوف. (١)

أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث بما يأتي:

١ - إنه لا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع؛ يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا، ولا يسمى رضاعة، ولا إرضاعًا إلا أخذُ المرضع أو الرضيع بفيه الثديَ وامتصاصُه إياه؛ تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة، وأما كل ما عدا ذلك؛ فلا يسمى شيء منه إرضاعًا، ولا رضاعة ولا رضاعًا؛ إنما هو حلب وطعام وسقاء، وشرب وأكل وبلع، وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا. (٢)

ونوقش بما يأتي: أ- إنكم قستم ذلك على الرضاع والإرضاع. (٣)

وأجيب عنه: بأن القياس كله باطل، ولو كان القياس حقًّا لكان هذا منه عين الباطل، وبالضرورة يدري كل ذي فهم أن الرضاع من شاةٍ يشبه الرضاع من امرأة؛ لأنهما جميعًا رضاع، والرضاع من الشاة يشبه الرضاع من المرأة أكثر من الرضاع بالحقنة، ومن الرضاع بالسعوط، وأنتم لا تحرمون بغير النساء؛ فلاح تناقضكم في قياسكم الفاسد، وشرعكم بذلك ما لم يأذن به الله عز وجل. (٤)

ويمكن أن يناقش الجواب: بقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [سورة النساء: ٢٣]، وغير بني آدم لا يصير لبني آدم أمًّا، ولا أخًا في الجنس، فضلًا عن الرضاعة.

ب - إن قولكم هذا مخالف لما دلت عليه نصوص الشريعة التي تعتبر ما فتق الأمعاء من الألبان محرِّمًا؛ في مثل المرويات الآتية: "إنما الرضاع ما فتق الأمعاء" رواه أصحاب السنن (٥)، "إنما الرضاعة من المجاعة" متفق عليه (٦)، وهذا يوجد في اللبن الواصل إلى الجوف؛ صبًّا في الحلق، أو التقامًا للثدي، أو غير ذلك، ولعل رضاع سالم - كما في صحيح مسلم (٧) - كان هكذا. (٨)

كما يمكن أن يناقش دليلهم بما يأتي: ج- إن هذا تخصيص للحكم الشرعي بالعرف اللغوي، والعرف الشرعي يقدم عليه إذا تعارض معه.

- الترجيح: الراجح ثبوت التحريم من الحليب الذي يتغذى به الرضيع إبان وصوله إلى جوفه بالقدر الذي يسد جوعته؛ لعموم النصوص المثبتة للتحريم من لبن الآدمية، ولأن الحليب إذا وصل إلى الجوف فقد تحقق معنى الغذاء الذي يقع به نشوز العظم ونبات اللحم، وهذا المعنى هو الذي نصبه الشارع سببًا للتحريم، ومن ثمَّ فلا تأثير لطريق حصوله؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني, على أن اختلاط حليب الآدمية مع دم الرضيع بصبه في جراحته قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة, لكن المقصود هنا هو وصول الحليب إلى الجوف من دون أن يختلط بالدورة الدموية؛ كما لو أُدخل بأنبوب (٩).

- ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في المسألة الآنفة أثر في فروع فقهية، منها:

١ - إذا قطر الحليب في الإحليل، فوصل المثانة؛ فهل يقع به تحريم؟

من اشترط التقام الثدي لثبوت التحريم، ولم يعتبر معنى الغذاء بوصول الحليب إلى الجوف - وهو ابن حزم (١٠) -؛ لم يثبت بالتقطير في الإحليل شيئًا، ومن اعتبر معنى التغذية - وهم الجمهور (١١) -؛ اختلفوا؛ فمنهم من رأى ثبوت التحريم به، وهو قول عند الشافعية


(١) ينظر: ابن عابدين: المصدر السابق، (٤/ ٤١٤).
(٢) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٩).
(٣) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٩).
(٤) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٩).
(٥) تقدم تخريجه عند الضابط السابع من المبحث الثالث في التمهيد.
(٦) تقدم تخريجه عند الضابط الثامن من المبحث الثالث في التمهيد.
(٧) تقدم تخريجه في المطلب الرابع من المبحث السادس في الفصل الأول.
(٨) ينظر: المازري: المعلم بفوائد مسلم (٢/ ١١٠). القاضي عياض: المصدر السابق، (٤/ ٦٤٠).
(٩) أفدته من حوار جرى مع الصيدلي زيد العشبان.
(١٠) ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (١٠/ ٩).
(١١) ينظر: ابن عابدين: المصدر السابق، (٤/ ٤٠١ - ٤٠٢، ٤١٤). القرافي: المصدر السابق، (٤/ ٢٧٥). الحطاب: المصدر السابق، (٤/ ٥٧٧). النووي: المصدر السابق، (٩/ ٦). ابن قدامة: المصدر لسابق، (١١/ ٣١٣).

<<  <   >  >>