للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الخامس

إرضاع الكبير للحاجة وأثره في انتشار المحرمية

اختلف أهل العلم والاجتهاد من قديم الزمان في مدة الرضاع الذي يخلِّف أثره وينشر المحرمية، وحيث كان الخلاف من الأهمية بمكان؛ بحيث يتصدر أمهات المسائل في باب الرضاع؛ فسأتوسع في بسط الخلاف، بعد تحرير محل النزاع؛ على ما يأتي:

- تحرير محل النزاع:

نُقل اتفاق فقهاء الإسلام على أن الرضاع يحرم في الحولين - إذا لم يفطم ويستغنِ عن الطعام - (١)، كما اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على اشتراط صغر الرضيع لثبوت التحريم بلبن الآدمية، واختلفوا في حد الصغر (٢).


(١) ينظر: ابن القطان الفاسي: الإقناع (٣/ ١١٨٦)، والقيد الذي بين الشريطتين أضفته لتحقق معنى الاتفاق على واقع الفقهاء.
(٢) لكن قول الله تعالى قال: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة: ٣]؛ يبطل زعم من زعم بأن اكتمال دين الله - الذي لا يجوز غيره - كان بتمام المذاهب الأربعة؛ حيث طفق أتباع المذاهب يتخبطون في اعتماد أقوال متأخري فقهاء المذاهب الأربعة، ضاربين صفحًا عما صح عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة والتابعين؛ فوسعوا دائرة الخلاف من حيث لا يشعرون، وضربوا في مفازة التعصب حين أخذوا بعصا التمذهب مخلفين وراءهم نور الوحي، وفقه من سلف.
قال أبو العباس ابن تيمية ت ٧٢٨ هـ: "ولا يلزم ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة؛ شيء من الأقوال المحدثة"، وقال: "لو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين، ولم يخالف كتابًا ولا سنة ولا معنى ذلك؛ بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشرعية؛ كالاستدلال بالكتاب والسنة؛ فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به، ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم، ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده. ومن قال: إنه يسوغ المنع من ذلك، فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة؛ بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أيُهَا الذِينَ آمنُوا أطِيعُوا الله وَأطِيعُوا الرَسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سورة النساء: ٥٩]؛ فأمر الله المؤمنين بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله والرسول - وهو: الرد إلى الكتاب والسنة -. فمن قال: إنه ليس لأحد أن يرد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة؛ بل على المسلمين اتباع قولنا دون القول الآخر؛ من غير أن يقيم دليلًا شرعيا - كالاستدلال بالكتاب والسنة - على صحة قوله فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وتجب استتابة مثل هذا، وعقوبته كما يعاقب أمثاله. فإذا كانت المسألة مما تنازع فيه علماء المسلمين، وتمسك بأحد القولين؛ لم يحتج على قوله بالأدلة الشرعية - كالكتاب والسنة -، وليس مع صاحب القول الآخر من الأدلة الشرعية ما يبطل به قوله؛ لم يكن لهذا الذي ليس معه حجة تدل على صحة قوله = أن يمنع ذلك الذي يحتج بالأدلة الشرعية بإجماع المسلمين؛ بل جوز أن يمنع المسلمون من القول الموافق للكتاب والسنة وأوجب على الناس اتباع القول الذي يناقضه بلا حجة شرعية توجب عليهم اتباع هذا القول وتحرم عليهم اتباع ذلك القول؛ فإنه قد انسلخ من الدين تجب استتابته وعقوبته، وغايته أن يكون جاهلًا فيعذر بالجهل أولًا". ينظر: ابن قاسم: مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (٣٣/ ٤١، ١٣٣ - ١٣٥).

<<  <   >  >>