للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣ - الرضاع؛ هل هو حق للأم أو حق عليها؛ فمن قال: إنه حق لها - وهم الشافعية والحنابلة -؛ أسند الوجوب إلى أبي الرضيع ابتداءً - على استثناء وقع من بعضهم في أحوال؛ كاللبأ، وهذا من أمارات الاضطراب التي يضعف بها القول وتنحرف به إلى مسار المرجوحية -، وإذا لم يَقبل أو يوجد غيرها؛ وجب عليها؛ لأن اللفظ في الآية محتمل، ولو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: {وَعَلَى المَوْلُوْدِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [سورة البقرة: ٢٣٣]، ومن قال: إنه حق عليها - وهم طائفة من السلف، ومذهب الحنفية والمالكية -؛ أسند وجوب الرضاع إلى الأم ابتداءً - على استثناء وقع من بعضهم في أحوال؛ ككونها شريفة ذات ترفه، أو مطلقة -؛ لأن ذلك عرف قد صار كالشرط، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. (١)

والتحقيق في هذا أنه حق لها من جهة، وحق عليها من جهة؛ فلها غنمه من النفقة وما يعمل الإرضاع فيها من الزيادة تبعًا للكفاية، وعليها غرمه، والله تعالى أعلم.

[المسألة الثانية: حكم تناول ما يفسد اللبن.]

نص بعض فقهاء المذاهب من الحنفية والشافعية والحنابلة على أن من وجب عليها الرضاع؛ فلا تأكل شيئًا يفسد لبنها أو يضر به (٢)، وصرح بعضهم بأنها تمنع من أكل ما يضر بلبنها (٣). قال الدبيان: وهو قول وجيه جدًّا؛ لأن الإنسان ممنوع من تعاطي ما يضر بالغير، ولو كان مباحًا في نفسه ا. هـ (٤)

ويمكن أن يستدل له أيضًا: بأن الرضاع إذا وجب، فإنه ينهى عن ضده؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده من طريق المعنى؛ تعيُّنًا، أو اقتضاءً؛ إذ لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده، وما لا يتم فعل الواجب إلا بتركه فهو حرام، والحرام منهي عنه. (٥)

وقد أثمر ذلك في حرمة تناول موانع در الحليب على من وجب عليها الرضاع بولادة، أو عقد، أو تعيُّن؛ ومنعها إن أبت الامتناع؛ كما يمنع السفيه بالحجر عليه إذا بذر ماله على حساب من تجب عليه نفقتهم.

ويتبين مما تقدم الآتي:

أولًا: يحرم تعاطي موانع در الحليب من قبل المرأة إذا وجب عليها الرضاع؛ بولادة، أو عقد، أو تعيُّن، أو كانت حاملًا، وتمنع إن أصرت؛ فإن تعاطتها، وبقي لها حليب؛ لم يحل لها أن ترضع أحدًا حتى يحكم أهل الاختصاص بسلامة حليبها من إفرازات الدواء المضرة بالرضيع.

ثانيًا: يجوز لمن مات مولودها أو سقط أو استغنى بالطعام أو أتم حولين، ولم يوجد من تتوقف حياته على حليب صدرها؛ أن تتعاطى موانع در الحليب؛ إذا حكم أهل الاختصاص بأنها لا تضرها، ويندب لها الكف عنها نفعًا لصبيان المسلمين بما خلق الله تعالى لها من اللبن، فإذا ترتب على الدواء المانع لدر للحليب ضرر على متعاطيه؛ ضمن الطبيب أو الصيدلي الذي صرفه له؛ إن جنى في صرفه بتعدٍّ أو تفريط (٦).

ثالثًا: إذا حكم أهل الاختصاص بحظر الرضاعة الطبعية؛ كما لو ترتب عليها انتقال مرض وبائي قد يودي بحياة الرضيع، ولم تؤمن المرضع على صبيان المسلمين؛ وجب عليها تناول موانع در الحليب؛ إذا لم تغلب أضرارها على منافعها وإلا حبست في بيتها، وتجبر إذا امتنعت؛ إلا أن يترتب على ذلك هلاك محقق لصبيها (٧).


(١) ينظر: القرطبي: المصدر السابق، (٣/ ١٦١).
(٢) جماعة من علماء الهند برئاسة البرنهابوري: الفتاوى الهندية أو الفتاوى العالمكيرية (٤/ ٤٣٢).
(٣) الشربيني: المصدر السابق، (٢/ ٤٤٣).
(٤) دبيان الدبيان: المصدر السابق، (٩/ ٣٥٢).
(٥) ينظر: السمعاني: القواطع (١/ ٢١٦ - ٢٢٠). ابن النجار الفتوحي: المصدر السابق، (ص ٣١٤، ٣١٦).
(٦) ينظر في تأصيل هذه المسألة: المبحث العاشر من هذا الفصل.
(٧) ينظر في التأصيل العلمي لهذه النتيجة المبحث السادس من الفصل الثالث، وهو مبحث: رضاع المصابة بالإيدز.

<<  <   >  >>