للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] وَقَوْلِهِ {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: ٤٢] ، وَأَخْبَارٍ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهَا «فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ» وَمَا جَاءَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» مَحْمُولٌ عَلَى عِظَمِ الْخَطَرِ فِيهِ أَوْ عَلَى مَنْ يُكْرَهُ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي (تَوَلِّيهِ) أَيْ: الْقَضَاءِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ فِي النَّاحِيَةِ، أَمَّا تَوْلِيَةُ الْإِمَامِ لِأَحَدِهِمْ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ. [دَرْس] (فَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ فِي نَاحِيَةٍ لَزِمَهُ طَلَبُهُ) ، وَلَوْ بِبَذْلِ مَالٍ أَوْ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ الْمَيْلَ (وَ) لَزِمَهُ (قَبُولُهُ) إذَا وَلِيَهُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ (فِيهَا) أَيْ: فِي نَاحِيَتِهِ فَلَا يَلْزَمَانِهِ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْوَطَنِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ لَا غَايَةَ لَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْمُحْوَجَةِ إلَى السَّفَرِ كَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ (أَوْ) لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا لَكِنَّهُ (كَانَ أَفْضَلَ) مِنْ غَيْرِهِ (سُنَّا) أَيْ: الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ (لَهُ) فِيهَا

ــ

[حاشية البجيرمي]

الْإِيجَابِ أَوْ حُرْمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لَهُ وَأَصْلُهُ قَضَايْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَضَيْت قُلِبَتْ الْيَاءُ هَمْزَةً لِتَطَرُّفِهَا إثْرَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ بُرُلُّسِيٌّ، وَجَمْعُهُ أَقْضِيَةٌ كَقَبَاءٍ وَأَقْبِيَةٍ. وَهُوَ لُغَةً إحْكَامُ الشَّيْءِ وَإِمْضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ الشَّيْءَ وَيُمْضِيهِ، وَشَرْعًا الْوَلَايَةُ الْآتِيَةُ أَوْ الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا أَوْ إلْزَامُ مَنْ لَهُ الْإِلْزَامُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَخَرَجَ الْإِفْتَاءُ

شَرْحُ م ر (قَوْلُهُ: فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ) لَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْقَلِيلِ لَا يَنْفِي الْكَثِيرَ؛ وَلِجَوَازِ أَنَّهُ أُعْلِمَ أَوَّلًا بِالْأَجْرَيْنِ فَأَخْبَرَ بِهِمَا ثُمَّ بِالْعَشَرَةِ فَأَخْبَرَ بِهَا أَوْ أَنَّ الْأَجْرَيْنِ يُسَاوِيَانِ الْعَشَرَةَ.

فَإِنْ قُلْت: الْعَشَرَةُ يَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ أَجْرًا أَوْ اثْنَيْنِ فَمَا بَالُهُ جَعَلَهَا عَشَرَةً؟ قُلْت يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الثَّوَابِ مُخْتَلِفَةً يَبْلُغُ عَدَدُهَا هَذَا الْقَدْرَ فَنَبَّهَ بِذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ عَلَى ذَلِكَ نَقَلَهُ الشَّوْبَرِيُّ مِنْ شَرْحِ الْوَرَقَاتِ لسم قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حَاكِمٍ عَادِلٍ مُجْتَهِدٍ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيَأْثَمُ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَإِنْ وَافَقَ الصَّوَابَ، وَأَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ وَرَوَى الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ خَبَرَ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» وَفُسِّرَ الْأَوَّلُ بِمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَالْأَخِيرَانِ بِمَنْ عَرَفَ وَجَارَ وَمَنْ قَضَى عَلَى جَهْلٍ م ر. وَقَوْلُهُ: وَأَحْكَامُهُ مَرْدُودَةٌ أَيْ إنْ لَمْ يُوَلِّهِ ذُو شَوْكَةٍ كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ اهـ رَشِيدِيٌّ وَنَظَمَ بَعْضُهُمْ الْأَرْبَعَةَ بِقَوْلِهِ:

أَعْنِي أَبَا دَاوُد ثُمَّ التِّرْمِذِيّ ... وَالنَّسَائِيُّ وَابْنَ مَاجَهْ فَاحْتَذِي

(قَوْلُهُ: كَقَوْلِهِ مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا) عِبَارَةُ م ر وَكَالْخَبَرِ الْحَسَنِ «مَنْ وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . (قَوْلُهُ: أَوْ عَلَى مَنْ يُكْرَهُ لَهُ) فِيهِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تُوجِبُ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ. (قَوْلُهُ تَوَلِّيهِ) أَيْ قَبُولُهُ، وَيَحْتَاجُ الْقَضَاءُ إلَى مُوَلٍّ وَمُتَوَلٍّ وَمُوَلًّى فِيهِ كَالْأَنْكِحَةِ وَالدِّمَاءِ وَمَحَلٌّ وَصِيغَةٌ وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ أَرْكَانًا. (قَوْلُهُ: أَمَّا تَوْلِيَةُ الْإِمَامِ) وَمِنْ صَرَائِحِ التَّوْلِيَةِ وَلَّيْتُك أَوْ قَلَّدْتُك أَوْ فَوَّضْت إلَيْك الْقَضَاءَ وَمِنْ كِنَايَتِهَا عَوَّلْت وَاعْتَمَدْت عَلَيْك فِيهِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ لَفْظًا بَلْ يَكْفِي فِيهِ الشُّرُوعُ بِالْفِعْلِ كَالْوَكِيلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ نَعَمْ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ شَرْحُ م ر.

(قَوْلُهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ) أَيْ فَوْرًا فِي قَضَاءِ الْإِقْلِيمِ وَيَتَعَيَّنُ فِعْلُ ذَلِكَ عَلَى قَاضِي الْإِقْلِيمِ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ كَمَا يَأْتِي، وَلَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ أَوْ خَلِيفَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْضَارَ مِنْ فَوْقِهَا مُشِقٌّ وَبِهِ فَارَقَ اعْتِبَارَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بَيْنَ كُلِّ مُفْتِيَيْنِ، أَمَّا إيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ أَيْ دَفْعُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ بَيْنَهُمَا إذَا أَفْضَى لِتَعْطِيلٍ أَوْ طُولِ نِزَاعٍ شَرْحُ م ر.

(قَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَيَّنَ إلَخْ) بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي النَّاحِيَةِ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ غَيْرَهُ شَرْحُ الرَّوْضِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاحِيَةِ بَلَدُهُ وَدُونَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى ع ن بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَسَافَةِ عَدْوَى نَصْبُ قَاضٍ س ل. (قَوْلُهُ: لَزِمَهُ طَلَبُهُ) وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ بِبَذْلِ مَالٍ) أَيْ زَائِدٍ عَلَى مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ فِيمَا يَظْهَرُ ح ل وم ر قَالَ ع ش عَلَى م ر وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَالُ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي صَرَّحُوا فِيهَا بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ حَيْثُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَإِنْ قَلَّ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ بَذْلُهُ لِلْقِيَامِ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُ اهـ. (قَوْلُهُ فَإِنْ امْتَنَعَ أُجْبِرَ) اسْتَشْكَلَ تَوْلِيَةُ الْمُمْتَنِعِ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مَعَ تَعَيُّنِهِ لَهُ مُفَسِّقٌ وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِعَدَمِ فِسْقِهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ غَالِبًا يَكُونُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا يَعْصِي بِذَلِكَ جَزْمًا وَإِنْ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهِ ز ي. (قَوْلُهُ: فَلَا يَلْزَمَانِهِ فِي غَيْرِهَا) نَعَمْ لَوْ عَيَّنَ الْإِمَامُ قَاضِيًا وَأَرْسَلَهُ إلَى مَا فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى لَزِمَهُ الِامْتِثَالُ وَالْقَبُولُ وَإِنْ بَعُدَتْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَيَّنَ أَحَدًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ تَعَيَّنَ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ فِي الْمَحَلِّ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ أَوْ بِقُرْبِهِ وَحِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ الْكَلَامَانِ س ل. (قَوْلُهُ: كَالْجِهَادِ إلَخْ) أَيْ فَإِنَّ لَهَا غَايَةً فَلَيْسَ فِيهَا تَرْكُ الْوَطَنِ بِالْكُلِّيَّةِ.

(قَوْلُهُ: سُنَّا وَقَوْلُهُ بَعْدُ: كُرِهَا) لَا يُقَالُ يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ سَابِقًا: تَوَلِّيهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَوْنُهُ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدْ يُسَنُّ وَقَدْ يُكْرَهُ؛ لِخُصُوصِ مَنْ اتَّصَفَ بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلسِّنِّ أَوْ الْكَرَاهَةِ تَأَمَّلْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>