للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «١» فالمعنى: لو افترى علينا بشىء من عند نفسه لأخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله من التقول عليه. فإن قلت: لا مرية أنه يعفى للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع

ولا شك أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟

فالجواب: أنه لا تنافى بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالإنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حالته من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن تراعى مرتبته عن أدنى مشوش وقاطع، فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضا، فيجتمع فى حقه الأمران.

وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لا يسامح به من ليس فى منزلتهم، ويؤاخذهم بما لا يؤاخذ به غيرهم. وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين، واجتمع فى حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لم تعامل به من هو دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال


(١) سورة الحاقة: ٤٤- ٤٦.