للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذه المحبة تنشأ من مطالعة منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة. ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده منة تؤهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه- صلى الله عليه وسلم-، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى فى قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى فى نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه، لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول.

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل فى الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل

وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن، فلست على شىء.

وتأمل قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «١» أى الشأن فى أن الله تعالى يحبكم، لا فى أنكم تحبونه، هذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب.

وقال المحاسبى فى كتاب «القصد والرجوع» : وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان فى القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده فى اليوم الشديد الحر للظمان الشديد عطشه، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له، وقرة عين فى حقه ونعيما لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد فى أوراد العبادة كلفة.


(١) سورة آل عمران: ٣١.