للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأحوال، ويرى نفسه فى ملكه لم يذق حلاوة سنته، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «١» . وروينا عن سيدنا العارف الكبير أبى عبد الله القرشى أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شىء. انتهى. فمن آثر هذا النبى الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن كان معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.

ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه فى الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته فى أخلاقه العظيمة، وتقدم فى كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ بالطاعات، وتحمل المشاق فى الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا.

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلى حرقة الشجى، فتنوع المدعون فى الشهود، فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «٢» ، فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب فى أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، بتزكية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «٣» . فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ»

، فلما عرفوا عظمة ذلك المشترى وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنا عظيما، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان


(١) صحيح: وقد تقدم.
(٢) سورة آل عمران: ٣١.
(٣) سورة المائدة: ٥٤.
(٤) سورة التوبة: ١١١.