والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التخزين والتطريب فى القراءة. ولكن النفوس تستجلبه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذى كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنى المحمود، وهو الذى يتأثر به التالى والسامع.
والوجه الثانى: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس فى الطبائع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعليم والتكلف، فهذه هى التى كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التى هى على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم اتقى لله من أن يقرؤا بها ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤن بالتخزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقراءة، ويقرؤنه بسجاياهم تارة، وتطريبا أخرى، وهذا أمر فى الطباع، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضى الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه- صلى الله عليه وسلم-، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال:
«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى.
والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر:
تغن بالشعر إذا ما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وروى ابن أبى شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعا:«تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه»«١» . الحديث والله أعلم. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى