ولا شك أن حياة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغى أن تكون حياته- صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتم من حياة سائرهم.
فإن قال سقيم الطبع ردئ الفهم، لو كانت حياته- صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة لما كان لرد روحه معنى كما قال:«إلا رد الله على روحى» . يجاب على ذلك من وجوه:
أحدها: أن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رد السلام دائما، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما، وهذا من نفاثات سحر البيان فى إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التى هى قطرة من بحار بلاغته العظمى.
ومنها: أن ذلك عبارة عن إقبال خاص، والتفات روحانى يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامّا شاملا، حتى لو كان المسلمون فى كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف لوسعهم ذلك الإقبال النبوى والالتفات الروحانى، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبر عنه، ولقد أحسن من سئل: كيف يرد النبى- صلى الله عليه وسلم- على من يسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فى آن واحد فأنشد قول أبى الطيب:
كالشمس فى وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
ولا ريب أن حاله- صلى الله عليه وسلم- فى البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل- عليه السّلام- يقبض مائة ألف روح فى وقت واحد ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- حى يصلى ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال فى حضرة اقترابه، متلذذا بسماع خطابه، وقد تقدم الجواب عن قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «١» فى أواخر الخصائص من المقصد الرابع.