افترض الله تعالى على نبيه- صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو- صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به فى سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل.
قال: وأما مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر فى ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة، إذ فى الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر- رضى الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة. إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه- صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضا. وقد يبارك فى العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة.
وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما عداها، فلا يرد شئ مما جاء فى فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومى. أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هى حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، فأشير على عبد الله فانصرف.
وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صح فى إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء فى فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقل من مكة على القول به، فقد كانت سببا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض وإكمال الدين، حتى كثر تردد جبريل- عليه السّلام- بها، ثم استقر بها- صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة. ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا- يعنى المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين فى أقل من ساعة؟!