للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدخول هى باء السبب التى تقتضى سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلا بحصوله و «الباء» التى نفت الدخول هى باء المعاوضة التى يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس فى مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده- ولو تناهى- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذى يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازى نعمة واحدة. فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا من أعمالهم، كما فى حديث أبى بن كعب عند أبى داود وابن ماجه.

وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل القائلين بأن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببا للسعادة فى معاش ولا معاد، ولا لنجاة المعتقدين أن النار ليست سببا للإحراق، وأن الماء ليس سببا للإرواء والتبريد.

والقدرية الذين ينفون نوعا من الحكمة والتعليل، القائلين بأن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هى بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجين بأن الله تعالى يجعلها عوضا عن العمل، كما فى قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «١» وبقوله- صلى الله عليه وسلم- حاكيا عن ربه تعالى: «يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم إياه» .

وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذى فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب


(١) سورة النحل: ٣٢.