للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروا على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى الله عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى الله عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون» «١» .

قال ابن حبان: أى اغفر لهم ذنبهم فى شج وجهى لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم.

كذا قال- رحمه الله-. وقد روى عن عمر أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «٢» الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .

وهاهنا دقيقة؛ وهى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما شج عفا وقال «اللهم اهد قومى» ، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: «اللهم املأ بطونهم نارا» «٣» فتحمل الشجة الحاصلة فى وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة فى وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حتى خالقه على حقه.


(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٩٩) فى البر والصلة، باب: النهى عن لعن الدواب وغيرها، مقتصرا على طرفه الأول، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(٢) سورة نوح: ٢٦.
(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٦٢٧) فى المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، من حديث على- رضى الله عنه-.