للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالحكم الله العلي الكبير المتعال. وأقاموا بها يوم الجمعة والسبت والأحد والإثنين والثلاثاء، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري، فأقلعت الفرنج لعنهم الله عنها، وقد أسروا خلقًا كثيرًا يقاربون أربعة الآلاف (١)، وأخذوا من الأموال ذهبًا وحريرًا وبهارًا وغير ذلك ما لا يُحدُّ ولا يوصف. وقدم السلطان والأمير الكبير يَلْبُغَا ظهر يومئذ، وقد تفارط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشَّواني بالبحر، فسمع للأسارى من العويل والبكاء والشكوى والجار إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين ما قطع الأكباد، وذرفت له العيون وأصم الأسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شقَّ عليهم ذلك جدًّا، وذكر ذلك الخطيبُ يوم الجمعة على المنبر فتباكي [الناس] كثيرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النَّصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب وشواني تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطُلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعًا.

وقد طلبتُ يوم السبت السادسَ عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتماعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة، فرأيت. فرأيت منه أنسًا كثيرًا واحترامًا زائدًا، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النَّصارى، فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك، فقلت له: هذا ممَّا لا يسوَّغ شرعًا، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدُّون إلينا الجزية ملتزمين بالذِّلة والصَّغار، وأحكامُ الملَّة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم - الواحد - فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير فقال: كيف أصنع، وقد ورد المرسوم بذلك، ولا يمكنني أن أخالفه؟

وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سُليمان بن داود : "ائْتُونِي بالسِّكِّين أَشُقُّه نصفَيْن" (٢) كما هو الحديث مبسوط في "الصحيحين"، فجعل يعجبه هذا جدًّا، وذكر أن هذا كان في


(١) في ط: الأربعة آلاف.
(٢) رواه البخاري رقم (٦٧٦٩) في الفرائض باب: إذا ادَّعت المرأة ابنًا ورقم (٣٤٢٧). ورواه مسلم أيضًا رقم (١٧٢٠) في الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين. ولفظه في البخاري:
عن أبي هريرة ، أنَّ رسول الله قال: "كانت امرأتان معهما ابناهُمَا، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتُوني بالسِّكين أشقُّه =

<<  <   >  >>