فلما نزلت قال أبو بكر: بلى والله أحبُّ أن يغفر الله لي، ثم رجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. واعلموا أن الله ﷾ مع ما ذكر من الصفح والإحسان والعفو وأمثال ذلك وأضعافه، فالجهاد لا بد منه، وهو الجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه. ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيات [المائدة: ٥٤ - ٥٥]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونزل الشيخ في دار الأوحدي، وقيل: في دار ابن سنقر، وأكبَّ الناس على الاجتماع والقراءة عليه في جميع العلوم ليلًا ونهارًا، فكان يعلّم الناس ويفتيهم، ويذكر الله ويدعو إليه، ويتكلّم في الجوامع بمصر على المنابر بتفسير القرآن، ويوم الجمعة من بعد الصلاة إلى أذان العصر إلى أن ضاق منه صدور خلق من أعدائه، وانحصروا منه، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وفي العشر الأول من شوّال اجتمع خمسمئة من الصُّوفية وفيهم شيخ شيوخهم كريم الآملي وابن المنبجي واتفقوا على الشكوى على الشيخ تقي الدين إلى السلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة فكانت لهم ضجّة شديدة، فقال السلطان: ما لهؤلاء؟! فقيل له: يشكون على ابن تيمية، فقال: وما يشكون منه؟ فقالوا: إنهم يزعمون أنه يسب مشايخهم، ويضع من قدرهم عند الناس. واستغاثوا، وجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ودخلوا على الأمراء، ولم يبقوا ممكنًا. فقال بعض أصحابه له: إنّ الناس قد جمعوا لك جمعًا كثيرًا، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكان قد تكلم في ابن عربي وبين طريقه، وطريق أتباعه من أهل الحلول والاتحاد فأمر أن يعقد مجلس بدار العدل، فعقد له مجلس كان يحبه ويتمناه، واجتمع فيه القضاة والفقهاء، فظهر من هذا المجلس من علم الشيخ، وشجاعته، وقوة قلبه، وصدق توكله، وبيان حجته ما يتجاوز وصف الواصفين مع أنه وحده، وكلهم عليه، وكان وقتًا مشهودًا، وقد قال له كثير من الفقهاء المخالفين له: من أين لك هذا العلم. فقال لهم الشيخ: من أين لا تعلمونه. وذكر جماعة ممن حضر هذا المجلس أن الناس لما تفرقوا منه، قام الشيخ ومعه جماعة من أصحابه، فجاء إلى موضع في دار العدل، فاستلقى على ظهره، وأخذ حجرًا، فوضعه تحت رأسه فاضطجع قليلًا. ثم جلس قليلًا، فقال له إنسان من الحاضرين: يا سيدي قد أكثر الناس عليك! فقال: إن هم إلا كالذباب، ورفع كفه إلى فيه ونفخ، وقام وقمنا معه حتى خرجنا من دار العدل، فأتي بحصان فركبه، وتحنّك بذؤابته، فلم أر أحدًا أقوى قلبًا منه، ولا أشجع، ولا أشد بأسًا. ولما أكثروا الشكاية فيه، والحط عليه، رسم بتسفيره إلى السّام. فخرج للسفر ليلة الخميس ثامن عشر الشهر، ثم ردَّ في يوم الخميس المذكور، وحُبس بسجن الحاكم في حارة الدَّيلم ليلة الجمعة تاسع شوال، ولما دخل الحبس وجد المحابيس في غفلة عظيمة مشتغلين بأنواع من اللعب يلتهون بها عمّا هم فيه كالشطرنج والنرد وغير ذلك، من تضييع الصلوات، فأنكر عليهم أشد الإنكار، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلمهم من السُّنَّة ما يحتاجون إليه، ورغبهم في أعمال البر وحضهم على ذلك،