وأتى الحجاج بأخرى منهن فجعل يكلمها وهي لا تلتفت إليه. فقيل لها: الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه؟ فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فأمر بها فقتلت.
وقيدت إليه أخرى فقال: والله لأعدنكم عدّاً، ولأحصدنكم حصداً. فقالت له الله يزرع وأنت تحصد؟ فأين قدرة المخلوق من الخالق؟
وقد أورد الجاحظ والمبرد حديث البَلْجاء وأفاضاه. وهي امرأة خارجية من بني تميم نهضت تثير الخوارج في العراق، وتؤلبهم على عبيد الله بن زياد. فنذر بها
عبيد الله قالوا: وذهب إلى شيخ الخوارج أبي بلال بن حُدير ذاهب، فقال له: يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء وأحسبها ستؤخذ فمضى إليها أبو بلال فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التَّقِيَّة فاستتري، فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد؛ قد ذكرك. فقالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يُعْنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله. فأُتى بها. فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق. فمرّ أبو بلال والناس مجتمعون فقال: ما هذا؟ فقالوا: البلجاء. فعرج إليها. فنظر، ثم عض لحيته وقال لنفسه. لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرادس.
قالوا: ولبثت ما شاء الله أن تلبث، ولم تسمع لها آهة ولا أنة، إلا أن تذكر الله وتشكره.
ذلك قبل قليل من كثير، مما يشهد للمرأة العربية في عهد إسلامها باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله.
ولقد كان سبيل ذلك أن تأثرت كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم بَها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.