ولقد أثمرت رواية الشعر في تلك النفوس الصافية النقية ثمراً جَنِيا فكانت المرأة ناقدة لا تباري، وشاعرة لا تجاري، وبنقدها وصوعها تبوّأ الشعر العربي تلك المنزلة التي لا تطاول روعة وجمالا.
ولئن ثار الخلائف من بني أمية في نفوس الشعراء روحاً خبيثة من التنابر والأحقاد فأثابوهم على المخزيات والمنتديات يترامون بها، ويتهالكون عليها لقد دافع عقائل العرب تلك الروح بنفاذ نقدهن، ولطف مآخذهن، وجلال المعنى وكفى. وكانت سيدة الناقدين سُكينة بنت الحسين. فهي حَكَمُ الشعراء الذي لا يرد حكمه ولا يَفيل رأيه ولا تبدو مزلته، وكانوا يفدون على دارها من كل صوب وحدب وكلهم قد عقد يده على خير ما قال، وليس بينهم إلا من كان حديثه طوال طريقه عما عسى السيدة أن تقوله وتحكم به، لأنه سيكون بين المتأدّبين وبغاة الشعر يقيناً لا شك فيه.
اجتمع إليها ذات مرة جرير والفرزْدَق وكُثَيَّر وجميل ونُصيب فنقدت لكل شعره وأخذت عليه المآخذ. ثم أثابت كلا بألف دينار فخرجوا بخمسة آلاف دينار وما كان الخليفة ليظفرهم حتى يجمعوا فيه من الفضائل ما تفرق في الأبرار والمقرّبين، والكرام الكاتبين، والقادة الفاتحين.
كذلك كانت مثوبتها للمغنين. وكان بصرها بمذاهب الغناء وضروب الإيقاع كبصرها بأعطاف الشعر وقطاف الأدب.
وكانت عائشة بنت طلحة تتأثر خطوات سُكينة في نقد الشعر والغناء، والاجتماع بالمغنين والشعراء، والرواة والأدباء، وذوي الرأي والسناء، فتحدّث كلا بما عني به، وخلق له، حتى لا تدع له مجالا يقول فيه.