للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأثارت حفيظته؛ وهاجت غضبته. ونحن أولا نضرب لك الأمثال ومنها تعلم إلى أي منزلة من نفاذ الرأي؛ وقوة التأثير؛ وحسن الهدايا؛ وصلَت الأم العربية في ذلك العهد السحيق.

جعل قوم لبشر بن أبي حازم الأسدي - وكان عبداً - جُعلاً على أن يهجوا أوس بن حارثة بن لأم. فأخذ يتلفقه بلسانه في كل مجتمع وناد حتى إذا ضاق بأوس أمره أرسل رسولا من لدنه ليشتري العبد من مولاه بالغاً ما بلغ. فلما اشتُري له

وجيء به إليه قال له: هجوتني ظالماً لي؛ أنت بين قطع لسانك؛ وحبسك في سرب حتى تموت؛ أو قطع يديك ورجليك وتخلية سبيلك؛ ثم دخل على أمه سُعدى - وكانت قد سمعت كلامه - فقالت له: يا بنّي: مات أبوك فرجوتك لقومك عامة فأصبحت أرجوك لنفسك خاصة؛ وزعمت أنك قاطع رَجُلاً هجاك فمن ما قاله غيره؟ قال: فما أصنع؟ قالت: تكسوه حلتك وتحمله على راحلتك وتأمر له بمائة ناقة. ففعل ما قالت. فملأ بشٌر عراض الآفاق بمدائح أوس. وكان مما مدحه به قوله:

إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي ولقد قضاها

فما وطىء الحصى مثل ابن سعدي ... ولا لبس النعال ولا احتذاها

وشبيه بهذا ما حدّث أبان بن تغلب قال: خرجت في طلب الكلأ فانتهيت إلى ماء من مياه كلب؛ وإذا أعرابي على ذلك الماء ومعه كتاب منشور يضطرم وعيداً وتهديداً؛ وجعل يقرأه على من بين يديه من القوم. فقالت له أمه وهي في خبائها - وكانت مُقْعَدَة كَبرا - ويلك! دعني من أساطيرك! لا تَحْمل عقوبتك على من لم يحمل عليك؛ ولا تتطاول على من لم يتطاول عليك؛ فإنك

<<  <  ج: ص:  >  >>