للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تدري ما تُقرَّبُك إليه حوادث الدهر. ولعل من صيرك لهذا اليوم أن يصير غيرك إلى مثله غداً؛ فينتقم منك أكثر مما انتقمت منه؛ فاكفف عما أسمع منك: ألم تسمع إلى قول الأول:

لا تعاد الفقير عللّك أن تر ... كع يوماً والدهر قد رفعه

وأما ابتعاثها الهمم من مكانها؛ وانتضاؤها العزائم من أغمادها؛ فذلك ما لا يكلفها جهد القول؛ فحسب الكلمة أن تخرج من فيها هادئة وادعة؛ فيكون لها ما بعدها. ومَثَل ذلك ما روى الراوون أن ذؤاب بن أسماء العبسي قتل عبد الله بن الصمة - وكان ذؤاب بطلاً أَيِّداً عتيداً - فلبث دريد يترقبه حتى أعياه. فلما انقضى الحول ولم يأخذ بثار أخيه قالت له أمه ريحانة بنت معد يكرب: يا بني عجزت عن طلب

الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته من زَبيد. فأنف لذلك. وحلف أن لا يَّدهن ولا يكتحل؛ ولا يمس طيباً؛ ولا يأكل لحماً؛ ولا يشرب خمراً؛ حتى يدرك ثأره. ثم استجمع لعبس وفاجأهم وأوقع بهم واقتاد ذؤاباً أسيراً وذهب به إلى فناء أمه فقتله بمرقب منها قال لها: هل بلغت ما في نفسك؟ قالت نعم مُتعت بك.

ألا إن أشد ما يملك النفس من أمر أولئك النساء أن يدفعن بأبنائهن في غمرة الواجب؛ ومن دونها رَصَدَ الموت؛ وبذل المهجات؛ لأن مية العز أروح في نفوسهن وأمثل بأبنائهن؛ من حياة العجز. ودونك حديثاً؛ لولا أن التاريخ العرب حافل بالكثير من مثله؛ لكان أنشودة العظمة والفخار لتلك الأمة المجيدة الكريمة.

ذلك أن ظعائن بني كنانة خرجن في ركبهم؛ وكان على خفارتهن ثلاثة

<<  <  ج: ص:  >  >>