إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه، فرُفعت له أبيات في ذرى جبل، وكان قد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات وقصد بيتاً منها كان منفرداً عنها، فبرزت إليه عجوز فقالت له: أنزل بالرْحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المُدَعْدَعة، والعُلْبة المتْرعة. فنزل عن جواده ودخل البيت. فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح، نام. فلم يستيقظ حتى تصَرَّم الهَجِير فجلس يمسح عينيه. فإذا بين يديه فتاة لم يرى مثلها قَوَاما، ولا جمالا فقالت: أبيتَ اللعْن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته، وتصامم عن كلمتها فقالت له: لا حذر، فَذَاك البَشَر، فَجدُّك
الأكبر، وحظنا بك الأوفر. ثم قربت إليه ثَرِيداً وقَديداً وحَيْساً. وقامت تَذثبُّ عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبنا صريفاً وضريباً. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة مدبرة، فملأت عينيه حسنا، وقلبه هوى، فقال لها: ما أسمك يا جارية؟ قالت اسمي عُفَيْراءُ. فقال لها: يا عفيراءُ، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت مَرْثَدٌ عظيم الشأن، حاشُر الكواهن والكهان لمُعْضلة بَعدَ عنها الجان. فقال: يا عفيراءُ أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراءُ، فما تلك الرؤيا؟ قالت رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لَهَبٌ لامع، ولها دخان ساطع، يقْفُوها نهر متدافع وسمعت فيما أنت سامع، دعاءَ ذي جرسٍ صادع.