وظهرت منه الكفاءه والخبرة وحسن الفراسة؛ أتته امرأة في أحد أسفاره تشكوه افتقاد غلة تينها منذ إبان إثماره كل يوم لا تجد ما نضج منه مع أن ذلك هو توت أولادها فأحضرها في خلوته، وأمرها أن تجعل في أسفل كل تينة أشرفت على النضج شعيرة، وأمر من الغد بجمع التين الذي يؤتى به لسوق البلد ليطعمه العسكر. ولما حضر بين يديه التزم التأمل في ذات الغلة بنفسه لينظر جيدها من رديها حتى رأى وعاء ملآنا من التين الذي في أسفله الشعير فأظهر استحسانه للغلة، وطلب صاحبه يسأله عن سانيته وعن خدمته لها وضايقه في السؤال حتى تبين منه أنه اختلسه للمسكينة فسجنه وأحضرها وأمره أن يحاسبها على جميع ما استغله من سانيتها.
ولما توفي والده استقل بالملك وشمر عن ساعد الجد في فك أسر البلاد من سلطة الجزيريين، فبنى سور البلاد وأتم بناءه عام سبعة عشر، وأقام سائر الأبراج المحيطة بها والأبواب الشاهقة. وكان تمام بناء الأبراج عام إثني عشر. وأقام القشل الخمس التي في المدينة وهي قشلة البشامقية وقشلة سوق الوزر، وقشلة سيدي عامر، وقشلة العطارين، وقشلة طريق سيدي المرجاني. وأسكن بها من عساكر الترك نحو الأحد عشر ألفاً وأكثر هن الاحتفاء بهم والتزيي بزيهم حتى أنه اتخذ لنفسه بيتاً بينهم في قشلة البشامقية وعاوض دار حمودة باشا المرادي التي بالقصبة وبناها لمساكنة جنوده بالحاضرة. وأقام عدة فنادق بالأرباض لسكنى زواوة، واعتنى بعمل المدافع في الحفصية والبارود في القصبة. وأحضر جيد الأسلحة وأعمل التطلع على أحوال الجند والبر بهم حتى كان ذلك هو غاية شغله يركب إليهم في أكثر أوقاته. وبنى أبراج حلق الوادي. وجدد أبراج الكاف وسورها وجهز جميعها بما تحتاج إليه.
وأرسل وزيره يوسف صاحب الطابع إلى دار الخلافة العثمانية فأحكم وصلته معها سنة عشر.
ولما استكمل جهازه حشد الأمحال الضخمة وأوعبها أبطال جنده وأرسلها تحت رئاسة سليمان كاهية الأول سنة إحدى وعشرين فنزل بها على قسمطينة ورماها بالكور والبونبة وطال بها الحصار نحو الأربعة أشهر إلى أن أشرف على فتحها فخرجت منها محلة عظيمة للدفاع عنها آل أمرها إلى هزم المحلة التونسية. ثم جهز الأمير أمحالاً أخرى حشد بها جنوده المجندة وأرسلها تحت رئاسة صاحب طابعه يوسف خوجة ووقع النزال مع الجزيريين في سراط فانتصر التونسيون انتصاراً هائلاً، واستولوا على سائر ما احتوت عليه محلة الجزيريين من العدد الحربية وغيرها، ورجعت المحلات المنصورة غانمة في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف. وزينت البلاد وتوالت الأفراح ومن ذلك اليوم نزعت البلاد أطمار مهانة الجزيريين ولبست ثياب العز وأصبحت رافلة في جلابيب أمنها.
وكان قبل ذلك حارب البلنسيان سنة أربع، وبعد الطول انفصل معهم على صلح كان أواخر سنة تسع بعد المائتين والألف.
وثار عليه عسكر الترك ليلاً في شعبان سنة ست وعشرين ومكنه الله منهم فقمع ثورانهم، وأطفأ نيرانهم.
ومن مفاخر دولة هذا الأمير الأساطيل التي اتخذها في البحر وغنم بها وسبى وانتصر بها على الجزيريين لما اقبلوا عليه من البحر بأسطول عظيم إلى حلق الوادي سنة ثمان وعشرين فعطب كثيراً من أجفانهم وردهم.
وقد أغاث بقوة جنوده ابني باشا طرابلس لما استنصروا به على عدوهم فجهز لهم المحال تحت رئاسة وزيره وصهره الحاج مصطفى خوجة سنة تسع بعد المائتين والألف، فانتصر بالمنشية وفر المستولي هارباً فأجلسهم على كرسي إمارة طرابلس وعقد لهم البيعة ورجع غانماً فائزاً بهذا الفخر الذي خلده لمخدومه وكان من رجال دولته الفائزين بالقرب منه.
وأما بقية رجال دولته فهم: سليمان آغا كاهية المحلة، وخير الدين كاهية دار الباشا وليها بعد سليمان السابق الذكر، والحاج حسن خزندار، والشيخ محمد الأصرم باش كاتب.
وكار الأمير ولوعاً بإكرام الوافدين عليه من ملوك الجهات بحيث إنه خلف للبلاد مآثر ومفاخر لا يحصيها عدد بسبب ما عنده من الغيرة والحمية الوطنية وإعمال الفكر في أمن البلاد وثروتها، وله في ذلك أخبار لا يفي بها غير تاريخ مستقل. وقد تصدى الشيخ إبراهيم سيالة لتأليف تاريخ في مفاخر دولة المذكور وقفت على قطعة منه غير أنه لم يستكمله.