أخذَ العلوم وبعضها عن معشر ... ورثوا المكارم أمجداً عن أمجدِ
وغدا وسيطاً ساعياً في بثها ... بحر نفيس الدر عذب المورد
أكرمْ به لمّا بدا متحلّياً ... خللاً حساناً جمّعت في مفرد
قد نالها وعسى بفضل الرب أن ... يحظى جلالاً في المقام الأسعد
وأفادَ ذا المأمولَ قولُ مؤرخ: ... (راقٍ جليلاً في النعيم السرمدي)
[٢٣ الشيخ محمد بيرم الثالث]
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن حسين بيرم، قد تقدم أن والده أصيب في الطاعون الجارف سنة ١١٩٩ تسع وتسعين ومائة وألف بفقد أولاده، وعزم على عدم التزوج حتى زوجه والده بابنة الشريف الفلاري فرزق منها بولده صاحب الترجمة ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول من عام ١٢٠١ واحد ومائتين وألف.
وقرأ على أعلام ذلك العصر مثل والده والشيخ حسن الشريف ومن عاصرهما من جلة العلماء غير أن أكثر قراءاته كانت على الشيخين المذكورين، وقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة كلا من المغني والمحلي والمطول والدرر، وحثل على الرتبة العالية في العلوم العقلية والنقلية.
وتصدى للتدريس فأخذ عنه فحول العلماء منهم الشيخ محمد بن سلامة، والشيخ محمد النيفر الناسج على منواله في الإلقاء إذ أن صاحب الترجمة قد اختص برتبة عالية في التدريس بحيث إنه يلقي الدرس على كيفية في التنظيم والاتساق والتحرير لا نظير لها مع حسن الأناة وإعمال النظر السديد في التحقيق، وقد أخذنا عمن أخذوا عليه، فكان شيخنا بواسطة رضي الله عنه. وكان يقرئ أولاً في جامع الزيتونة والمدرسة الباشية مع مواظبة كلية وتحرٍّ في أوقات الدرس وقد ظهرت مزيتة على أترابه، وتقدم عليهم في شرخ شبابه.
وختم كتباً مهمة بالتدريس ولما ختم المختصر المنطقي للشيخ السنوسي هنأه بذلك الختم أحد تلامذة الدرس معتذراً عن التخلف في يوم ذلك الختم من شعبان سنة ١٢٥٤ أربع وخمسين ومائتين وألف وهو العالم الخطيب المدرس الشيخ محمد الطيب الرياحي بقوله: [الكامل]
يا سيداً سعد الزمان بسعده ... وغدا الكمال حليفَ خدمة مجده
وأضاءتِ الدنيا بنور علومه ... وتوضحت سبل السداد برشده
لك في الفؤاد مكينُ ودٍّ يقتضي ... لكمُ من التعظيمِ غاية وجدهِ
وأوّد لو سمح الزمان فصغت من ... مدحيك ما فاقت جواهر عقده
ولكمْ يجولُ الفكرُ حول حياضه ... فيذودهُ صرفُ الأسى عن ورده
شغل من الأشغال ينتهبُ الحجا ... نهباً ويغمد سيفه في غمده
سيّما وعندي اليوم أكثر شاغل ... أغنى المقامُ وحاله عن سرده
والحقُّ أني في القضية مذنب ... جاوزت في التقصير أقصى حده
وأنا بعفوك من عتابك عائذ ... مستوهب نيل الرضا من بعده
ولأنت أكرم واهب وأجلّ من ... ترتاد غايات المنى من عنده
لازلت موصولَ السعادة آويا ... لأثيل عزٍ لا زوال لطوده
ولما تمّر جامعث الوزير صاحب الطابع بالحلفاوين قدمه الأمير خطيباً به فكان أوّل خطيب به فصلى فيه أوّل جمعة في الثاني عشر من ربيع الأول سنة ٢٩ تسع وعشرين في يوم مشهود، وحضره الأمير والمأمور فاستلان صلد القلوب بمواعظه وخطبه البليغة.
وكان ابتداء بناء الجامع المذكور يوم الأحد غرة المحرم سنة ١٢٢٣ ثلاث وعشرين وبنى حوله المدرسة الفخيمة والتربة والمكتب، ودفن بالتربة ولي الله الشيخ عثمان بن كرم يوم الأربعاء الموفي ثلاثين من جمادى الثانية سنة ٢٥.
ثم لما توفي الشيخ أحمد البارودي وولي عوضه الشيخ أحمد بن الخوجة قدمه الأمير عثمان باشا مفتياً في ثاني ذي القعدة الحرام سنة ١٢٢٩ تسع وعشرين ومائتين وألف، وكان عندما دخل على الأمير هو وشيخه الخوجي السابق الترجمة أراد الأمير أن يقدمه مفتياً ويجعل شيخه المذكور مفتياً ثالثاً فصاح به شيخ الإسلام والده البيرمي الثاني وقال للأمير كيف يتقدم ولدي على رجل طال جلوسه بين يديه للتعليم، وأمر ولده بالتأخر عن شيخه فتأخر وصار يومئذ مفتياً ثالثاً وكان سنه يومئذ دون الثلاثين سنة، فلاقى والده بولايته سروراً كان يظن أنه لا يلاقيه، والله ذو الفضل العظيم، وقد هنأه بذلك الفاضل الشيخ محمد بن نصر بقصيدة طويلة قال في مطلعها: [الكامل]