ولما تأججت الفتنة بين الأخوين محمد وعلي المراديين وجالت يد محمد باي في البلاد اعتقل مفتيي البلاد وهما الشيخ يوسف درغوث والشيخ محمد فتاتة بمحلته المنصوبة بالجبل الأخضر خارج البلد، وكان الشيخ فتاتة أحس بما أضمره الشقي ففر بقطع من الليل ودخل دار الشيخ سعيد الشريف القريبة من باب البلد فاختفى بها إلى أن سكنت الفتنة وأصدر الإذن بتأمينه فخرج واستمر على خطته وامتحن بقتل ولده حمودة العالم سنة ١١٠٩ تسع ومائة وألف فصبر لذلك.
وكان أبيض اللون ممتلئ الجسم مدور اللحية نظيف الشيب حسن الزي صاحب أناة في حركاته جميل المعاملة إلى أن مرض فتوفي سنة ١١١٥ خمس عشرة ومائة وألف وكتبت على قبره قصيدة لطيفة وهي: [الكامل]
أمحمد نورت بالحسناتِ ... رمساً كبدر حلَّ الهالاتِ
بلَّغتَ نصحك في الأنام فكان غا ... يتها المماتَ بأشرف الحالات
قد لقبوك فتاتةً من أجل ما ... فتَّتْ دروسك معجز الآيات
أبقيت عين الدّين باكية فلم ... تبرح وما فيه سوى أنَّاتِ
يا روحه بشراكِ بالرَّحمى فقد ... لاحت عليكِ دلائلُ الخيرات
وكذاك يدعوك العفو كرامة ... أن أرخيه (وادخلي جناتي)
١١١٥
[١٤]
[الشيخ محمد العواني]
هو الشريف القروي الشيخ أبو عبد الله محمد العواني حفيد الصالح الشيخ علي بن حسن بن عبد الله بن محمد بن علي بن موسى بن يحيى بن أحمد بن عوانة المغربي النحوي ابن حمودة بن زيادة بن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت العلم والشرف، المتحلي من مفاخر الصلاح بكل عز وترف، وكم لهذا البيت من فحول، ثبتت غراستهم في رياض المعقول والمنقول، وكم ظهر منه من رجالا طلعوا في أفق الولاية، وظهروا في ديوان التصرف بأعظم آية، أولئك رجال الله الذين تفاخرت بهم العصور والأزمان، وتجملت بذكر كرامتهم ومفاخرهم تواريخ مدينة القيروان، فهو البيت الذي في المجد قديم، وحسبك أن أصله منبع الشريعة عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقد ولد صاحب الترجمة بالقيروان ونشأ بها في طلب العلم فأخذ عن جلة علمائها في ذلك العصر إلى أن حصل على علوم شتى، ثم رحل إلى مصر فاستكمل بها علومه ودخل إلى إسلامبول ونال حظوة عند صدر الدولة ابن الكبري مصطفى باشا، ثم آب إلى حاضرة تونس على عهد رمضان باي فأكرم نزله وأولاه خطة الإفتاء لما رأى له من المعرفة بالنوازل وكان طويل القامة كثيف اللحية متواضعاً فصيح اللسان، ثابت الجنان، حاضر الجواب معظماً عند الخاصة والعامة.
ولما استولى مراد باي وأكثر من تعاطي الفواحش وسفك الدماء وهتك الحرمات بلغه إنكار الشيخ عليه سوء صنيعه، مع أنه كان يجد منه في نفسه لمودته لعمه رمضان باي، فأحضره وسأله عن حكم ما يتعاطاه وبمجرد ما أفتاه بما أنزل الله في ذلك أمر بقتله فقال له إني أنصحك إذ أن من قتل عالماً أيس من الحياة بعده فلم يغن عنه شيئاً بل قتله ظلماً وقطع من لحمه وشواه وأكله بالخمر مع ندمائه أواسط شهر رمضان المعظم سنة ١١١٠ عشر ومائة وألف ونقل أهله بقية جسده إلى القيروان فدفن بين أشراف بيتهم رضي الله عنهم أجمعين. أما مراد بأي فقد دارت عليه الدوائر بعد ذلك وقتل شر قتلة والعياذ بالله وكان على يده زوال ملكهم فكان به انقراض دولة بني مراد بعد أن قتل جميع من بقي منهم وجمعت رؤوسهم ببطحاء القصبة والملك لله الواحد القهار.
[١٥]
[الشيخ محمد بن موسى]
وجدت في بعض تقاييد جدي القريب أن الشيخ محمد بن موسى كان مباشراً خطة الإفتاء بتونس سنة ١١١٦ ست عشرة ومائة وألف ثم رأيت صاحب الشهب المحرقة ذكر في مدرستي جامع الزيتونة على عهده ما نصه ومنهم الشيخ الإمام الفقيه الفاضل الواعظ المدعو عبد الكبير الشهير بابن موسى تولى ذلك عن أبيه القاضي المفتي المدرس الحاج الأبر أبي عبد الله محمد بن موسى المتولي ذلك عن والده الشيخ موسى المذكور وكان رجلاً صالحاً اهـ?.