وامتدت يده في يد علمي المعقول والمنقول، والفروع والأصول، فكان أعلم رجال عصره في التفسير والحديث والفقه مع تظلعه في المعقولات والآداب، وقد أقرأ بجامع الزيتونة مغني ابن هشام والمختصر الخليلي مراراً بغاية التحقيق والتدقيق المشار إليه فيهما ومع ذلك كان ذا ولع بالنوازل في مذهبي المالكية والحنفية حتى صار مرجعاً لعلماء المذهبيين بالحاضرة وكتب في الفتاوي كتائب في غاية التحرير وكان آية الله في الذكاء والألمعية مع البراعة في التوثيق حيث باشر الإشهاد مع جليسه الشيخ أحمد المحجوب.
ولما توفي شيخه المسراتي دعاه مراد باي بن حمودة باشا إلى خطة الإفتاء فكتب إليه قصيدة يستعطفه بها ويستقيل من الخطة وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل]
قسماً بنور جمال طلعتك التي ... تروي بشاشتها ظما المرتاد
ومهمامه الأمر الذي أدعى له ... فيح تبيد رواحلي وجيادي
وكتب تحتها جائزتي إقالتي فجمع الأمير له الديوان وألح عليه حتى قال له إنك إن امتنعت بعد هذا كنت معرضاً عن هذا الجمع بأسره وعند ذلك قبلمنه الخطة قكانت ولايته سنة ١٠٨٥ خمس وثمانين وألف وانتفعت البلاد بعلومه وفتاويه.
وقد وقفت له على حكم بتاريخ سنة ١١٠٣ ثلاث بعد المائة والألف على عهد الأمير محمد باي المرادي وكان القاضي يومئذ بتونس وعملها الشيخ محمد ولي الدين والمفتي الحنفي الشيخ عبد الكبير درغوث.
وقد أكمل شرح الشيخ الأخضري لنظمه درة الفرائض ومع رسوخ قدمه في علوم الدين كانت له يد طولى في العلوم الدبية وبراعة في الكتابة والإنشاء لم يكن في عصره من يزاحمه فيها وألف تاريخاً يحتوي على نحو السبع كراريس في التعريف بعلماء زمانه.
ومن لطائف شعره ما كاتب به صديقين له أهديا له سمكاً صحبة مكتوب فقال: [البسيط]
أهديتما سمكاً مثل اللجين فيا ... الله من سمك وافى به شركُ
شفعتماه بمكتوبٍ حوى درراً ... من در لفظكما فالدر مرتبك
لا شك أنكما بحران قد زخرا ... فمنكما يستفاد الدر والسمك
[الطويل]
وروض حللناه كأنَّ نواره ... قلائد در في نحور النواعم
إذا مالا شدتْ أطياره في غصونه ... ومالت سواقيه كبيض الصوارم
وجدت لذيذ الخمر في طعم مائه ... وشنفت سمعاً من غناء الحمائم
ومن إنشائياته ما كتبه في تقريظ سمط اللآل في التعريف بالرجال تأليف الشيخ محمد قويسم وهذا نصه إن أحسن كلام يفتتح به المقال، وأيمن ذكر يصدر به كل أمر ذي بال حمد الله الملك المعتال، وثناء ذي العزة والجلال، الذي أبدع الكائنات بقدرته الظاهرة، واخترع المصنوعات بحسب إرادته الباهرة، والصلاة والسلام على خاتمة الرسالة العامة، والنبوة التامة، محمد المبعوث بالآيات القاطعة المؤيد بالمعجزات الباهرة الساطعة، وعلى آله الأخيار ما تعاقب الليل والنهار.
وبعد فقد وقفت على ما تيسر من هذا المجموع الغريب، والأنموذج المتأنق العجيب، جمع صاحبنا وأخينا في الله الفقيه الأفضل، والعلامة الزكي الأكمل، أبي عبد الله محمد ويعرف بقويسم ضاعف الله لي وله الحسنات وغفر لي وله الخطايا والسيئات بمنه فألفيته روضاً ينعت ثماره، وعبقت بأريج المسك أزهاره، فاشتمل على مباحث أثارت الأدلة الواضحة من أماكنها، فقنصت أوابد نقولها من غوامض مكانها، فأحسن به مجموعاً قد أشرقت معانيه، وعلت على الفلك أعلى مبانيه، فلله در ناظم عقوده، وراقم بنوده، فلقد ضمنه من منح المسائل، وقد أطلع من الدلائل، ما تقر به عيون أولي الألباب.
[السريع]
لله مجموع سما رتبة ... على السها والأنجم الزهرِ
حوى حلى أهل النهى والتقى ... والأدبِ البارع والفخرِ
كأنه في حسنه روضة ... حفَّت بأنواع من الزهر
نظرت في آدابه نظرة ... فامحتْ الأشجان عن صدري
وعاد لي أنسي الذي كانت لي ... مصباحاً في سالف الدهر
همت وما نلت له غايةً ... وهل ينال الكوكب الدري؟
ما وقعت عيني على مثله ... قط وهذا غاية الأمر