وإلى موقفه الذي حسم به الفتنة أشار صاحب الإتحاف ونحن ننقله ليتضح للعيان أن العلماء الصلحاء كانت لهم يد لا تنسى في الإبقاء على رمق الدولة فلولاهم لذهب العلم الإسلامي بتشتت عقد الأمة لأن الفتنة لا تأتي إلا بشر وبيل، وعسى أن يعرف المتحاملون على أهل العلم الإسلامي والصلاح انهم مخطئون في إساءة ظنهم بالعلماء وتحميلهم وزراً هم برآء منه.
وإلى هذا الموقف المشرف أشار المذمور: (ولم يزل الحال في اضطراب وشدة إلى أن قدم من الجريد بركة القطر المشار إليه بالبنان، المتدرج في مقامات العرفان، الولي السالك المحب لعباد الله، شيخ الطريقة الرحمانية أو النخبة مصطفى بن عزوز واجتمع بعلي بن غذاهم ووجوه جموعه وقد مسهم الملل بعد أن اخذ لهم الأمان من الباي واستوثق منه بالعهود والإيمان وقرأ للباي قوله تعالى: (يوجد آية) (٩١) النحل.
ثم قال الشيخ مصفى بن عزوز لجماعة علي بن غذاهم، لا جواب لكم عند الله على إراقة دماء المسلمين وقد أعطاكم الباي الأمان على يد أمير المحلة وخفف عنكم اكثر مما يظن، إلى غير ذلك مما تفضل به عليكم خشية إراقة الدماء,.
وقال لعلي بن غذاهم: (أنت لست بقائم تطلب ملكاً، وزعمت انك جامع عصابة شاكية لكف عادية جهالها، وقد زال السبب فلا بد يزول المسبب وقد عطلتم الناس على السعي في ابتغاء رزقهم) .
فانتدب ابن غذاهم وتأخر.
فأتاه فرج بن دحر وقال له أي لعلي بن غذاهم: نحن في ربط واحد ما كان ينبغي لك أن تحله وحدك ولنا مع سيدي مصطفى بن عزوز موقف بين يدي الله.
وعلى كل حال فقد حاق بنا الغدر، وسترى أنت من معك عاقبة ما فرحتم به من الأمان إلى غير ذلك وفي بعض القلوب عيون.
وحضر مع الشيخ مصطفى بن عزوز أعيان من تلاميذه وغيرهم كأبي العباس أحمد ابن الشيخ الولي عبد الملك الحمادي وأبي عبد الله محمد الصالح، والشيخ المسن الحاج مبارك صاحب الزاوية بتالة، وسيأتي له خبر، وحضر لذلك الشيخ البركة أبو العباس أحمد بن عبد الوارث وكفى الله المؤمنين القتال على يد هذا الشيخ ومن معه من هؤلاء الفضلاء جزاهم الله جزاء من أتعب نفسه في إصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين فالأعمال منوطة بالظاهر، والله يتولى السرائر، والمرء مجزي بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وأسقط الباي ما أجحف من الإعانة بل صيرها عشر ريالات فقط وأسقط من العشر، وترك الأداء على ما يباع في غير الأسواق وأجابهم إلى مطالب أخرى الله أعلم هل طلبوها، أو قيلت أو تقولت عليهم فسمعوها، أضربنا عن ذكرها لمنافاتها قضايا العقول، وكل ما نافاها يعد نقله مجازفة وقد تقدم ذلك وإلى الله تصير الأمور) .
(الإتحاف ج?٥ ص١٦٨ وص١٦٩) .
وكما للشيخ مصطفى بن عزوز موقف كذلك كان للشيخ العلامة رئيس الإفتاء أحمد بن حسين في العمل بالمكاتبة على أثناء رأي ابن غذاهم عن القدوم إلى تونس لنه لو قدم لاشتعلت الفتنة في العاصمة فإنه ثنى عزمه عن ذلك، وبه بقيت العاصمة بعيدة عن الفتنة.
ويظهر أن موقف أهل العلم في تونس كان في صالح هذه البلاد، وإبقائها محافظة على كيانها دون إدخال ما يؤول بها إلى فتن تموج موج البحر.
والمواقف الرصينة هي التي حافظت على هذا الجامع جامع الزيتونة نبراساً يشع بالعلوم الدينية وهادياً للتي هي أقوم.
?الاتزان التاريخي
يعبر كلام صاحب الإتحاف في هذه الثورة التونسية العارمة بأن الشيخ الوزير ابن أبي الضياف يحمل على السياسة التونسية في مواقف كثيرة ويحملها وزراً ثقيلاً، ويظهر المصلح من غيره في مواقف عديدة.
ومع مواقفه لا يرى أن في ثورة علي بن غذاهم إنقاذاً للموقف لذلك شكر وأطنب في مدح الشيخ البركة الصالح المصطفى بن عزوز حيث حقن دماء المسلمين وكفى الله بتداخله المؤمنين القتال.
وحقاً رأى لأن رأس الثورة لم تكن له المؤهلات التي تؤهله لتسلم دولة لأنه كما عرفه صاحب الإتحاف ذو معرفة جزئية.
ومع انه حمد فعل العاملين لحقن دماء المسلمين انتقد الشدة التي عومل بها الكثير بعد إخماد اللهيب.
ودعا غلى الرفق الذي لا يقتضي الحال غيره حتى لا يلتجئ المظلومون إلى الاحتماء برعايا الدولة الوافدين على المملكة.