لما حَوَوْا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا
ومن شعره في الهجاء:
إن المرابط باخل بنواله ... لكنه بعياله يتكرم
الوجه منه مخلّق بقبيح ما ... يأتيه فهو من أجله يتلثم
وقد أتى على البلاد الوباء الذي كان ابتداؤه في القعدة الحرام عام ٨٧٢ اثنين وسبعين وثمانمائة وتزايد إلى أن بلغ الخارج من البلاد ألفاً في اليوم الواحد ثم ارتفع في ذي الحجة مكمل العام المذكور، ثم أتبعه الطاعون الجارف أيضاً سنة ٨٩٩ تسع وتسعين وثمانمائة، وتتابع بعد ذلك الطاعون الذي جرف علماء البلاد وفضلاءها من الكتاب والمؤرخين، وبقيت بها بقية كان من آخرهم الشيخ محمد الوشتاتي الذي تقلّد خطة القضاء سنة ٨٩٤ أربع وتسعين وثمانمائة فكملت به المائة التاسعة وأتت المائة العاشرة على القاضي البكي وقد أقفرت البلاد من العلماء ثم توالت فيها الحروب بسبب التهيات أمد سلطنة بني أبي حفص واختلافهم عليها حتى أدخلوا لها الإسبانيول.
ثم تلقفتها الدولة العثمانية خلد الله عزها فتم لها افتكاكها سادس جمادى الأولى سنة ٩٨١ إحدى وثمانين وتسعمائة واستقر بها عمال الترك على حين لم يكن بالبلد من يعد في أفراد العلماء المعدودين وغاية من هم بها أهل الدين عدول ينتصبون للإشهاد في المعاملات بين الناس يفتون على حسب ما عندهم من العلم لكن على كل حال هم من أهل الفضل والدين ذلك من أعظم شروط العدالة المحققة فيهم رحمهم الله ورضي عنهم.
[الروضة المرضية، فيمن ولي نيابة القاضوية]
قد سبق أن الدولة العثمانية خلد الله عزها فتحت البلاد التونسية وأقامت بها عمالاً وقد صار القضاة عند ذلك يأتون من بلاد الترك فيقضي القاضي بتونس ثلاث سنين ويستبدل بغيره بحيث إنه بعد كل ثلاث سنين يقدم قاض من قضاة الترك، غير أنه لما كان على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأهل المملكة التونسية كلهم على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه احتاج القاضي الحنفي الوافد من بلاد الترك إلى إقامة نائب من المالكية يقضي بمحضره، فيكون ذلك النائب من أمثل العدول الموجودين.
ثم لما انتظم أمر الدولة وتراجعت المملكة بتراجع العلم في أهلها في دولة بني مراد أقاموا أربعة من العلماء المالكية للإفتاء بين الناس ومشورة نائب القاضوية مع كون نائب القاضي من أخيار أهل عصره في العلم، وأعادوا اجتماع الفقهاء يوم الخميس فجتمع في يوم الخميس كل من القاضي الحنفي ونائب القاضوية المالكي والأربعة المفتين من المالكية ونقيب الأشراف بدار الخلافة المسماة دار الباشا بمحضر خليفة الباي عامل البلد المسمى الباشا أو نائبه وهنالك يقع فصل النوازل الخلافية التي لم يرتض الحكم فيها أحد الخصمين وطلب تأخيرها إلى المجلس. إلا أنه لما صار الحاكم المعبر عنه بالباشا كبيراً على العساكر وأقيم للحكم عوضه الدولاتي صارت الأحكام تتصرف في المجلس بمحضر الدولاتي في المجلس وبعد نهاية وقت اجتماع المجلس يخرج القاضي ونائب القاضوية والمفتون ونقيب الأشراف ويحضرون بدار الحاكم نفسه ويعلمونه ما وقع وربما عرض لهم ما يمنعهم من فصل النازلة فيفصلونها بين يديه في داره ولا يمكن لمحكوم عليه بعد ذلك التخلص من الحكم الذي صدر بمحضر الحاكم ولا يقدر أن يحميه أحد في البلاد.
١ - ٢ - ٣ وستمر العمل على ذلك إلى أوائل الدولة الحسينية خلد الله أمرها فكان أول من ولي القاضوية من علماء البلاد الشيخ ساسي نوينة الأنصاري الأندلسي أكرهه علي أفندي لما وفد من دار الخلافة العثمانية إلى الحاضرة التونسية بخطة القضاء، وكان عالماً، فطلب نائباً عالماً فلم يجد أعلم من الشيخ ساسي المذكور فطلبه للنيابة عنه فامتنع ولما رآه متشدداً قال له إنك عن لم تتول النيابة لافتيّن بقتلك على مذهبك وعند ذلك وليها ولازمها إلى أن توفي.
ووليها من المالكية أيضاً الشيخ محمد النفاتي ويأتي ذكره.
ولما عزله أسطى مراد ولي عوضه النيابة الشيخ أحمد الرصاع. ثم عزل ووليها محمد بن موسى وقد سبق ذكره في المفتين ولما ولي هو الفتيا أعيد إلى نيابة القاضوية الشيخ أحمد الرصاع وهو الذي أدرك الدولة الحسينية وها أنّا نذكر ترجمته وترجمة من وليها من بعد على مقتضى شرطنا السابق فنقول وبالله نستعين:
٤-الشيخ أحمد الرصاع