ولما توفي المحسني المحمودي قدمه المشير الثالث خليفة أواخر شهر رمضان المعظم سنة ١٢٨٤ أربع وثمانين ومائتين وألف، وخطب بالخطب البليغة، وواظب على إقامة الصلوات في أوقاتهأن وقرأ المولد النبوي بالنيابة عن الإمام الأكبر قبيل وفاته إلى أن توفي إمام الجامع الشيخ محمد محسن فقدمه المشير الثالث إماماً أكبر بجامع الزيتونة في السادس عشر من ربيع الأول سنة ١٢٨٩ تسع وثمانين ومائتين وألف، فحظي من دهره بغاية المراد، غير أن الخطة أتته على حين بلغ به ضعف البدن إلى حده، فخطب أخرى ثم أقعده الضعف، ولما حضر المولد النبوي بعد ذلك طلب الأمير أن يقتنع منه بسرد أدعية لضعفه، فأرسل له الأمير يأذنه بأن يريح نفسه وأن خليفة الجامع الشيخ محمد الشريف يقوم مقامه، فأعاد على الأمير الطلب بأنه يحضر الموكب بنفسه ويسرد المولد عوضه أخوه الأصغر المفتي الشيخ محمد النيفر، فأعفاه الأمير من ذلك وأرسل إلى خليفته الشريف بإحضار المولد النبوي، ولم يحضر الإمام الأكبر صاحب الترجمة ذلك الموكب.
وكان مع ذلك آية الله في الذكاء والتقلب في الأمور ومعرفة وضع الأشياء في مواضعهأن عالمأن لطيف الأخلاق، جميل المحاضرة، محصلاً أختامه يرغب الناس في حضورهأن لحسن ما ينتقيه ويحرره فيها من المسائل المهمة.
وقد قربه الأمير، لعلمه وحسن أخلاقه، حتى كان ذا جاه رفيع غير أن الأجل عاجله وكدر الدنيا لم يترك مشاربه صافية، فتوالى عليه المرض واشتد به الضعف حتى لازم المنساة بعد الخمسين، ولم يزل المرض مصاحباً له، يضاجعه تارة وتارة يريحه، إلى أن لازمه أخيراً وأدركته المنية وعمره نحو خمس وخمسين سنة، فتوفى أواخر ذي القعدة الحرام سنة ١٢٩٠ تسعين ومائتين وألف، وقد بر به ولده فبادر لدفنه يوم وفاته عشية لك اليوم وشهد العموم جنازته، عليه رحمة الله.
وقد كتب في ترجمته حين وفاته كتابة نثرية في الرائد التونسي هذا نصها:
في ضحوة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام افتقد هذا القطر التونسي شيخ الإسلام المالكي والإمام الأعظم بجامع الزيتونة صاحب النسب الذي هو في بيت النبوءة عريق، والعرفان الوثيق، وهو الهمام الذي عبقت الأرجاء من الثناء عليه بمسك أذفر، أستاذنا أبو الفلاح الشيخ صالح النيفر، فهال خطب فقده على سائر الأمة وما هان، وأودع في أكباد الذين آمنوا أعظم الآلام والأحزان، إذ كان لمحاجر الشريعة نور، وملبسها من الفخر العز الموفور، فيا له من همام هم بإدراك المعالي فنالهأن وسبق في تلك الحلبة رجالهأن حتى عقدت عليه كل مكرمة سائر الخناصر، وباهت به مملكتنا سائر ممالك القياصر، فكسا أندية العلوم حلل المحاسن، وأجرى من انهار معارفه ماء غير آسن، درسه يسحر الألباب، وتقريره يزري بحسان فرائد الآداب، له في الأسلوب الحكيم الاقتدار على تقليد اللبات بالدر النظيم.
أما حقائق الدقائق، وفائق الرقائق، فلا مطلع لشموسهأن غير رياض دروسه، ولا مورد لرحيقهأن غير شفاف كؤوسه، فكم أدار على أرواحنا مكن أعجب الأساليب راحأن فأودعها من ذلك نشوة وانشراحأن فهو كشاف المعاني، والمصباح الذي يستضيء بشهابه كل معاني، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، وأحرز السبق في ميادين الفروع والأصول، قدمه في سائر العلوم راسخة، ومعرفته الوثيقة لسائر الزيوف ناسخة، إن تكلم في المجالس أبهت الناطق والصامت، وأضحى بلواتر الفصل الصالت، إذ حنكته الفصاحة، ودرى كيف يأسو للدهر جراحة، وسبر بمسبار الألمعية أغوار الحدثان وجابه يدها تجريبه جباه الزمان، فعلم بمواقع الأمور، وجرى فيها بالسعي المشكور.