ثم قدمه الأمير علي باي لخطة القضاء لعلمه ودينه، وكان عالماً عاملاً زاهداً متقشفاً يجلس للحكم على جلد شاة ويأكل من عمل يديه قيل إنه كان يخبز في كل يوم قرصة ويتحمل بنفسه مؤونة عجنها وطيابها بطاجين أمامه فحضرت بين يديه نازلة وكانت القرصة في طاجينها فالتفت أحد الخصمين فرآها أخذت في الانحراق فأسرع إلى قلبها على الوجه الآخر فصاح به الشيخ إنك قد تركتني اليوم بلا طعام ولم يأكلها حيث رأى أن صنيع الخصم بها من الرشوة للقاضي وهكذا كان ورعه رضي الله عنه.
وجلس لقراءة القرآن على كرسي ختمة جامع الزيتونة بعد وفاة والده مدة طويلة إلى أن أصيب خليفة الجامع الشيخ حمودة إدريس عند صلاة الظهر بقصورة الجامع وضاق الوقت عن انتظار تولية الأمير فأجمع المسلمون الحاضرون بالجامع على تقديم قاضيهم صاحب الترجمة، فلما نزل من القرءة عن الختمة قدموه للصلاة بهم، ولما باغ الأمير علي باي ذلك قال لا أعدل عمن اختاره المسلمون لأنفسهم فقدمه خليفة بجامع الزيتونة فزان المحراب والمنبر وخطب الخطب البليغة واستلان القلوب بحسن ترتيله ومواعظه مع ملازمته للإقراء بجامع الزيتونة بحيث إنه عمر الجامع سنين متطاولة وولده أبو الحسن علي شيخ الختمة إلى أن حضرته الوفاة وهو على خططه الرفيعة بين قضاء وإمامة وتدريس فتوفي سنة ١٢٠٤ أربع ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين وقد رثاه أحد الشعراء بقوله: [الخفيف]
آيل الناس هكذا بطن رمس ... موحش من حواه من بعد أنس
غصة الموت أوقفت كل شخص ... تحت جبن وبلّدت كل حس
ليس يدري ولا يداري نفيساً ... نفس الكرب أو هبوبةُ دوس
مثل هذا الرئيس من كان طوداً ... عالماً قد أعيذ من كلّ لبس
أنفق العمر في العلوم وأمسى ... مسهراً للعيون في حرف طرس
حين لاقى الإله قد أرخوه ... (نال طولاً من الكريم السويسي)
[-٨-الشيخ محمد الطويبي]
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن الجليل الطويبي الطرابلسي قدم جده علي بن عبد الجليل من طويب من عمل طرابلس إلى جزيرة جربة وقرأ بها العالم الرباني الشيخ إبراهيم الجمني وتوفي بها ودفن هنالك.
وسلك ولده من بعده مسلكه في طلب العلم، فقرأ على شيخ والده، ثم قدم إلى تونس وتقدم لخطبة إمام جامع الهواء ومشيخة المدرسة التوفيقية.
وكان عالماً فاضلاً حسن الخط، نسخ كتباً كثيرة للأمير علي باشا لحسن خطه.
ولازم التدريس مع القيام بخطة إمامة جامع الهواء إلى أن أتاه محتوم الأجل سنة ١١٩٣ ثلاث وتسعين ومائة وألف وكتب على قبره: [الكامل]
هذا ضريح قد أتته بشائر ... سقيا له روض رحيم طاهرُ
قد حل فيه كرامة لنزيله ... من جنة الرضوان نشر عاطرُ
إذ حلَّة الشيخ الهمام المرتضى ... بحر المعارف والعلوم الزاخرُ
جد الزمان وعالم العصر الذي ... دانت إليه أصاغر وأكابرُ
أعني الطويبيّ المهذب أحمداً ... من ذا لرتبته السها يتقاطرُ
قد كان في التدريس بحراً زاخراً ... تطفو بساحله علا ومفاخرُ
ذاك الإمام الواعظ العلم الذي ... نارت محاريب به ومنابرُ
لما أتاه الموت أبقى زاده ... براً جميلاً رمسه به نائرُ
وافى لربه راجياً غفرانه ... ورضاه إنه للبرايا غافرُ
فلذاك وافق من دعا تاريخه ... (برضاك متّع أحمداً يا قادرُ)
ونشأ ولده صاحب الترجمة بين يديه، فقرأ عليه وعلى الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز الكاتب قبل الترقي لخطة الكتابة، وقرأ على الشيخ الكواش والشيخ محمد العنجاتي العالم الصالح، كان من فحول علماء جامع الزيتونة مع قلة ما بيده اتفق أنه تخلف يوماً عن درسه وكان يقرأ عليه كثير من العلماء فلما ألحوا عليه في السؤال عن سبب التخلف أعلمهم أنه لم يجد زيتاً ولا ما يشتري به الزيت.
وبعد أن سمعوا منه العذر اجتمع من تلامذته الشيخ الطاهر بن مسعود وصاحب الترجمة الشيخ محمد الطويبي والوجيه الأبر الحاج سالم الوسلاتي وتأسفوا لحال الشيخ وقالوا إن كان شيخنا مع علمه لم يحصل له ما يشتري به الزيت فماذا عسى أن نبلغ نحن بعده وأخذوا يفكرون في الاشتغال بما يتيسر لهم به الرزق.