وفي أثناء مدة دولته شيد رسوم رسوم العلوم، ببنائه المحكم المعلوم، فجمع آلاف المجلدات من الكتب وأوقفها بجامع الزيتونة وجعلها في صدر الجامع في عشرين خزانة، وكان إدخالها للجامع في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وخمسين، وأقام بجامع الزيتونة ثلاثين مدرساً انتخبهم من علماء عصره؛ منهم خمسة عشر من المالكية، ومثلهم من الحنفية، ويقرئ كل واحد منهم درسين في الجامع من أي فن شاء ويأخذ ريالين. وعين لإجراء الجراية المذكورة مدخول بيت المال وكان ذلك في السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف, وجمع الأوقاف الموقوفة على الدروس بجامع الزيتونة، وجعلها لنظر زكيل ورتب منها اثني عشر مدرساً ستة مالكية ومثلهم حنفية يأخذ كل واحد منهم ثلاثة أرباع كل يوم عن درسن يقرئهما بالجامع.
وجعل طابعاً للقاضي المالكي. وأجرى على أهل المجلس الشرعي من المالكية جراية دار الباشا التي كان اختص بها المشايخ الحنفية، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين. وبالجملة فقد صرف جانباً عظيماً من همته في الاعتناء بالعلم والعلماء حتى رأى ثمار غراسته في دولته وأصبحت تونس كثيرة الفحول، من حفظة المعقول والمنقول.
وهو أول من اتخذ عمل المولد النبوي بإحياء ليلته والحضور لقراءته صباحاً بجامع الزيتونة في موكب يحضره جميع رجال الدولة بملابسهم الرسمية ويحضره جميع العلماء وأمر بإطلاق المدافع تبشيراً به. وهو من العمل الذي لا يضيع له عند الله.
وحين وقعت الدولة العثمانية في الحرب مع الروس جهز لها من عسكره النظامي آلافاً رئاسة رشيد، وشحن بهم وبعددهم ومونتهم مراكب عظيمة وجهها إعانة لخلافة الإسلام على عهد السلطان عبد المجيد خان.
وكان شهماً حازماً، ذا صولة عظيمة، عالي الهمة، وافي الكرم، يعطي العطايا الباهظة، ولوعاً بتعظيم شأن الدولة، لا يهاب المخاطر، خصه الشيخ محمد بن سلامة بتاريخ ضمنه كثيراً من قصائد مديحه.
ولم يزل في صولته إلى أن أصابه فالج عطله مدة وأدركته المنية فتوفي بحلق الوادي ليلة الخميس السادس عشر من شهر رمضان المكعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن بالتربة عليه رحمة الله.
[١١ المولى المشير محمد باشا باي]
[١٢٢٦ ١٢٧٦] هو المشير أبو عبد الله محمد بن حسين بن محمود بم محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، وأمه فاطمة بنت محمد بن عثمان بن علي بن عثمان وفاطمة هاته أمها شلبية بنت على بن مصطفى الشريف ممن عرفوا بالشرف ويلبسون علامته بحاضرة تونس. أما عثمان الأعلى جد فاطمة المذكورة فوالدته تركية بنت حسين خوجة صهر الداي أسطى مراد، ويقال: إنها لها شرفاً من قبل أمها، على كل حال فإن المشير المذكور له شرف يتصل به.
وقد ولد سنة ست وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في بذاخة عز دولتي جده وأبيه. وزوجه والده بابنة شيخ الإسلام البيرمي الثالث، وأقام له العرس الفاخر الذي جرى على نسق أعراس الملوك العباسيين. وأولم له بدعوة الجفلى، وأظهر فيه فخامة الملك ومآثر الفضل والبذل ما لا يدخل نحن حصره، وكان زفافها إليه ليلة الخامس عشر من شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين وألف.
وسافر في الأمحال على عهد تملك عمه فجعلها عمه بينه وبين ولده يتداولانها إلى أن توفي عمه، فاستقل هو بولاية الأمحال، وباشر خفي الولاية وجليها.