ولما توفي ابن عمه قبل هو البيعة العامة صبيحة يوم الخميس السادس عشر من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. ووفدت عليه الوفود للبيعة والتهنئة، فزان ملك آبائه وأجداده كابراً عن كابر، وأقر سائر الوزراء على وظائفهم، فكان مصطفى خزندار وزير العمالة والمال، ومصطفى آغا وزير الحرب. وجعل خير الدين وزير البحر، والنصراني فيلسين راف وزير الخارجية، وجعل التنفيذ بيد الداي محمد، وأقام صهره إسماعيل السني صاحب طابعه. واستدرك حال المملكة وضنكها، فأمر بتسريح جموع العساكر التي وجدها ولم يبق من عشرات آلافها المتآلفة إلا من بهم الحاجة للحراسة وحفظ شارات الملك، وأجرى على من أبقاهم فيوضاً من الإحسان، وهواطل من امتنان، وزيادة على تخليص جراياتهم التي يستحقونها، واستصحبهم معه في تنزهاته وخروجاته الشهيرة، وأطعمهم أعز الطعام من اللحوم والطيور والفواكه والمصنوعات السكرية البديعة، فأصبحوا في نعيم التنعيم، وخلد بذلك لنفسه ذكراً حميداً بين جموع السلامة من آلاف العساكر التي انتقاها، ولحفظ الراحة تخيرها وأبقاها. ولما وردت عساكر الجهاد الذين كانوا في دار الخلافة العثمانية أكرم قبولهم وأثنى على صنيعهم الحميد وتلقاهم بغاية البر والإنعام وجازاهم بزيادة الخمس في مرتب جميع العساكر النظامية، وكان ذلك في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وسبعين.
وقد أسقط غالب الأداءات التي وجدها مضروبة على المبيعات من الحيوان وغيره مما ضاق به ذرع المكاسب العمومية. وأزال عن الإعراب وسكان القرى جميع ما كانوا فيه من ضيم المكوس وأداءاتها وضرائبها وخطاياها، وفك أسرهم من ذلك كله وعوض للدولة من جميع ما أسقطه وأزاله أداءً معيناً على الرجال القادرين من الأعراب وسكان القرى قدره ستة وثلاثون ريالاً سنوياً لا يكلفون بغيرها، وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بأواسط شوال سنة اثنتين وسبعين، وذلك بعد أن أطلق المقَيَّدِين في العسكرية. فاطمأن الناس عموماً وأقبلت الأعراب وسكان القرى على شأن الفلاحة آمنين على كسبهم من الخطايا والضرائب. وساعد البخت بحصول الخصب العظيم، فأثرت المملكة ثروة بعد العهد بمثلها مع الأمن العام، وكثر التبايع وتعاطي الأسباب، وحصل الرخاء وتحسن المعاش، وأباح بيع اللحوم على تراض المتبايعين، فتنافس القصابون في اختيار الغنم والبقر التي يذبحونها.
وباشر الملك بنفسه، وأحيا وظيفة الحسبة بالاحتساب العام على مصالح البلاد ةالرعية والأوقاف بحيث أن محتسبه العام قائم في سائر الحقوق العامة بتفقد السجون وإعادة النظر في استحقاق المسجونين، ومن وجده مظلوماً أخرجه، وأقام من خواصه حارسين على تصرف العمال وجواسيس في سائر الأعمال مع ما له من الاهتمام بالبحث عن حال الرعية، يخرج للصيد، فينفرد عن الجموع الذين يخرجون معه، ويتقصص أحوال العمال من الأعراب العابرين السبيل. وتشدد في عزل من يشكوه أهل عمله العمال وإن كان من أقرب الناس إليه، واقتص لهم منهم ما أمكنه حتى حال بين العامل والمعمول، بما فوق المأمول.
واجتهد في تأمين الرعية في الحواضر والبوادي فأعمل السيف في قطاع الطرق والمحيرين لراحة السكان بكثرة السرقة, وقتلهم سياسة شرعية، حتى انقطع المتعاطون للسرقات، واطمأنت العباد والبلاد، وعدل بين الرفيع والوضيع وقبل الشكايات في مجلس حكمه بآحاد رجال دولته وأنصف المظلومين من غير محاباة. وكان محباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظم العلماء فأبقى على جامع الزيتونة ما تأسس فيه، وأجرى عمل المولد النبوي، واعتنى بتنظيم المجلس الشرعي، فبنى دار الشريعة المعمورة وجعل الحكم فيها يومياً يحضرها القاضيان المالكي والحنفي، ويحضر مع كل واحد منهما في كل يوم مفت من شيوخ مذهبه. ويجتمع جميع المجلس الشرعي في كل يوم خميس لفصل نوازل الخلاف بمحضر الداي فكان هو المؤسس لديوان الشريعة المطهرة، وقد فتحه صبيحة يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وحضر يوم فتحه بنفسه اهتماماً بشأن الشريعة الإسلامية أدام الله عزها.