وقد عده الشيخ المختار العياضي في مفاتيح النصر في علماء العصر فترجم له بما نصه.
[الفقيه أبو محمد الشيخ عبد الله السوسي]
هز من العلماء الأعلام، كأنما هو ضياء في جبين الإسلام، وبدر علم لا يفارقه التمام، جيد المعرفة بالنحو والبيان وبعلم الفقه والحديث والكلام، خزانة تحقيق، ومعدن تدقيق، قدم من المغرب إلى تونس وجدَّ في القراءة على مشايخ ذلك العصر منهم الشيخ الصفار. ثم ارتحل إلى المشرق فعكف على العلم ساهرأن وقطف منه رياحين وأزاهر، ثم رجع إلى إفريقية فاستوطن القيروان ولازم بها التدريس والإقراء فمكث بها برهة من الزمان، حتى كان بها من أمر الله ما كان، فانتقل تحت الجناب العلي والفخر الجلي مولانا الباشا علي فأغمره في بحر إحسانه الزاخر، وصار معدوداً من العلماء الأكابر، وقد أثبت من شعره ما يدل على علو قدره فمن ذلك قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويتشوق: [الوافر]
أَحنُّ وما إلى وطني اشتياقي ... ولا شوق إلى كاسات ساقي
ولا طرب لرنات المثاني ... مجاوبة بألحانٍ رقاق
ولا للغانيات ولاجياد ... يسابقن الراح لدى السباق
ولا للروض قد حفت بزهر ... بكل الطرف منها بائتلاق
ولا لسماع أسجاع القَمَاري ... على دوح تُخَالِلُها السواقي
ولكن طَيْبة المختار طه ... علت شرفاً على كل الأفاق
إلهي أوثقتْ رجلي ذنوبي ... على الحرمين فاحلل لي وثاقي
أعدني كي أموت بها إلهي ... بجاه المصطفى بدر اتساقي
على دين حنيفيّ معافى ... من الأهوال ساعة كشف ساقي
وصلى الله ما هزت سرورا ... قلوب العاشقين لدى ألاقي
على المختار خير الخلق طرا ... وأفضلهم جميعاً باتفاق
وآل ثم صحب ثم تال ... بإحسان إلى يوم المساق
قلت وقد أخذ عنه كثير من علماء جامع الزيتونة كما تقدم ذكره في تراجمهم وختموا عليه أعالي كتب المعقول والمنقول وتناشدوا بين يديه رائق الشعر عند أختامه وقد أصيب في آخر عمره بضعف بصره فكتب إليه الشيخ علي الغراب بقوله: [الطويل]
ألا أيها الحبر الذي بحر علمه ... له في الورى يبدو تلاطمُ أمواجِ
إذا سنح المعنى العويص بذهنه ... فذلك صيد لم يكن منه بالناجي
لئن حل في عينيك ضعف فقد غدا ... بفكرك في الأشياء قوة إنتاج
إذا عَرَضَ المعنى العويص مسابقاً ... ترى كلّ ما قد ضاق أوسع منهاج
وإنك بحر موجهُ متلاطمٌ ... وما البحر يوماً للعيون بمحتاج
شفاك إله العالمين بفضله ... إلى أن ترى ما دق في ظلمة الداج
وأخرج منها داخل الداء مسرعاً ... على غير إيذاء بألطف إخراج
بمن خصه المولى برؤية كلِّ ما ... غدا خلفه واختص منه بمعراج
عليك سلام يحسد المسك نفحه ... يجدد أفواجاً لكم بعد أفواج
ولم يزل في جلالته وكماله ناشراً لواء العلوم إلى أن أدركه الأجل المحتوم لما حضرته الوفاة جمع أولاده الثلاثة وقال لهم من ترك أولاداً مثلكم هل تنفذ وصيته؟ فقالوا له نعم ونحن سميعون مطيعون فقال لهم إذا مت فاغسلوني على السنة واحملوني إلى قبري من غير جهر بالذكر أمام النعش وتوفي ليلة الخميس السابع عشر من شوال الأكرم سنة ١١٧٧ سبع وسبعين ومائة وألف ونفذ بنوه وصيته وقد رثاه الشيخ محمد الغضبان بقوله: [الطويل]
أرى الكون من فقد السريّ تصدّعَا ... وركن الهدى من بعده قد تزعزعا
وذابت فحول العلم من موت ماجدٍ ... تصرف في كل الفنون وأبدعا
هو السند السوسيُّ من عَرْفِ بحثه ... نسيمٌ به روض العلوم تضوعا
فكم شنّف الأسماع جذب حديثه ... إلى أن غدا كاس البلاغة مترعا
وكم منح الطلاب مجداً مؤثلا ... ووشحهم برد البيان منوعا
وكم حل إشكالاً عليه تقاصرت ... عزائم مَن في المشكلات تضلعا
وكم برزت للفكر أجياد فكره ... فقاد بها صعب العويص وطوعا
وكم بات في دجن يسامر بحثه ... فأثر بالجميل مولعا
تعود ذكر الله في كل حالة ... إلى أن أتى الإجلال أن يتقطعا
وأبدت رياض العلم غب وفاته ... ذيولاً يرى منه أسى وتوجعا