وقد كنت أخبرتك بأن التعويض عما أرسلت إليك من الأمور المكروهة غاية عندي حتى أستعزت من ذلك، وقصدت بذلك أن لا تهتم معي في مثل ذلك، فخالفتني في التعويض وإن وافقتني في تفضلك علي بالدعاء جزاك الله جزاء المحسنين، هذا ومما يغمني أيضاً ويثقل علي وصفك لي بأوصاف حميدة أكثرها ما في عبدك إلا ضدهأن فلو إنك إذا خاطبتني خاطبتني بما يناسب حالي لسررت بذلك، ولكنك رأيت كمالك في عبدك فنسبت ذلك إليه، كما إذا ارتسمت صورة جميلة في صفحة مرآة فلما رأى المرآة إنسان طهر له جمال المرآة وإنما الجمال للصورة التي انتقشت في المرآة، نعم سيدي ولا تنسني من دعائك، في وقت هجوم حالك، وطيب أجتناء الشهد من خمر وصالك، وسلم لنا على أولادك وتلامذتك وعامة المنتمين إلى شريف خدمتك وطريقك.
من الودود ومن أولادنا الطيب وعلي وسائر من هو منا وإلينأن والحمد لله رب العالمين، من الفقير إلى ربه، المشفق من سوء كسبه، إبراهيم بن عبد القادر الرياحي".
[[ترجمة محمد الطيب الرياحي]]
وقد امتحن في آخر أمره بفقد ولده الأكبر الشيخ محمد الطيب، وكانت ولادته سنة ست وعشرين ومائتين وألف، فنشأ بين يدي والده وقرأ معقول العلوم ومنقولها عليه، وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث وغيرهمأن وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، وقد كتب في أثناء إقرائه حواشي على شرح المحلي لجمع الجوامع الأصولي، وحواشي على شرح الأشموني لأفية ابن مالك، تدل على رسوخ قدمه، واتقاد ذكائه، وتقدم غماماً وخطيباً بجامع أبي محمد الحفصي وخطب فيه بعض من إنشائه، وهو محقق، أديب، شاعر، ناثر، يقذف الشعر من أبحر اللطافة، وينتجب النثر من أزاهر الظرافة، كأنما أودع في إنشاءاته، محاسن أخلاقه وبدائع توشياته، وقد جمعت منه شذوراً في كتابي مجمع الدواوين، تدل على تقدمه في الآداب على الأندلسيين، وكان عالماً حيياً جميل السمت عالي الهمة ظريف المحيا لطيف المحاضرة، وقد عذبت منه في العلم جميع موارده، وعاد عليه فخر نشأته في رياض فضل والده، إلى أن أدركته المنية بين يدي والده في غرة ربيع الثاني سنة ست وستين ومائتين وألف بمرض الكوليرة العام، ودفنه والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من زاويته التي أسهها قرب حوانيت عاشور، وتلقى مصيبة فقده بغاية الصبر.
أخبرني العالم المفتي الشيخ أحمد كريم أنه كان يحضر درس الموطأ على الشيخ بداره، فكان آخر عهده به في الدرس أنه لما أنهى القراءة وأراد التلامذة أن يقوموا أجلسهم وقال لولده المذكور وكان مدون الدرس هل رأيت شيئاً فيما يتعلق بالموت الفجائي؟ فقال له: رأيت أن رسول الله اصلى الله عليه وسلم استعاذ منه، فقال له الشيخ: قد اطلعت ولا أدري في أي كتاب على أنها ميتة حسنة وكررها وسكت، ثم نهض الجميع فلم تمض غير أيام قليلة وأصيب ولده المذكور بالمرض العام ومات، عليه رحمة الله.
وقد كاتبه المشير أحمد باشا باي في التعزية به فأجابه بأوجز مكتوب قال فيه بعد المفاتحة.
"أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم، المسلي عن النبأ العظيم، وقد أسلمنا طيب الولد إلى اله بقلب سليم، وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، والسلام.
ولم يستكمل الشيخ بعد ولده الستة الأشهر حتى طوته الليالي طي السجل وأتاه محتوم الجل، بعد أن تجاوز في العمر الثمانين سنة.
وكان آدم بسمرة يعلوه أصفرار، رقيق البشرة، أحجب بقصر أبلج أشهل بضيق غاير، شم بانفراج، أسيلاً مأن قصير اللحية، يتخلل شبيه خيال من بقايا الشباب، ربعة لقصر، تلوح على وجههه سيماء الصالحين، قضى عمره في العلم والعمل لله رب العالمين.
[[وفاة الشيخ إبراهيم الرياحي]]
وتوفي بمرض الكوليرة العام يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف، من الغد حضر مشهد جنازته الأمير والمأمور، وتبرك بتشييعه الجمهور، ودفن إلى جنب ولده السابق الذكر بالمقام المذكور، ضاعف الله لهما الأجور، وحباهما الفوز الكبر يوم البعث النشور.
وكانت وفاته رضي الله عنه من آخر العهد بالمرض العام وإلى ذلك أشار تلميذه ومجاوره في المدفن الشاعر الكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي في رثائه بقوله: [الوافر]