بشرى له إذ جاء في تاريخه ... (يا حسن حور زيني لمحمد)
[٤- المولى علي باشا باي]
[١١٢٤ ١١٩٢] هو الأمير أبو الحسن علي بن حسين بن علي تركي ولد سنة أربع وعشرين ومائة وألف، ونشأ بين يدي والده في التدريب والتهذيب وقراءة العلم الشريف على الشيخ الحاج يوسف برتقيز، وأكثر ميله إلى العلوم الدينية لا سيما الحديث النبوي، ونشأ على ذلك إلى أن غاب غيبته ورجع رجوع الدر إلى معدنه صحبة أخيه يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف وتمت البيعة لأخيه فقلده هو ولاية الأمحال ولازم السفر بالأمحال لاستخلاص الجباية مدة.
وبعد انتقال أخيه أجمع أهل الحل والعقد على تقديمه للإمارة فبايعوه يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهنئة، واستقر على كرسي المملكة وأقَّر رجال دولة أخيه على مناصبهم وقرر الأمور على ما كانت عليه واستعمل من الرفق والحنان ما جلب به جميع القلوب.
واصطفى لمجلسه العلماء ودخل في زمرتهم مع ما له من الذكاء والمشاركة في العلوم وحب المحاورة وملازمة رواية صحيح البخاري بنفسه يستحضر للمبيت عنده كل ليلة طائفة من العلماء للمسامرة على العلم وسرد الكتب المهمة والمحاورة فيها، وكثيراً ما يورد عليهم المشكلات، والإشكالات من توقفاته ويديرون في ذلك كؤوس محاضراتهم ومحاوراتهم ويجزل عطاء المجيد منهم. ومن ذلك توقفه في مسألة إجزاء أداء النذور في وقت الكراهة مع أنه وقت إثم، وقد كتب له في المسألة شيخ الإسلام البارودي كتابة حرر فيها إشكال الأمير والنصوص التي توقف في الجمع بينها بما يدل على رتبة الأمير في العلوم الدينية.
وقد اتفق له أيضاً أنه كان يقرأ تفسير القاضي البيضاوي والعلماء بين يديه فمرت به عبارة فيها مخالفة بين الضمير ومفسره في التذكير والتأنيث فسأل عن وجهها فلم يحضرهم الجواب ثم أجابه الشيخ عبد الكبير الشريف بأن ذلك لمراعاة الخبر فاستحسن جوابه وأجزل صلته حتى قال بعض الحاضرين: إن هذا الجواب الذي أجاب به الشيخ مشهور مسطر تحت كل ورقة فقال له الأمير: وهلا أجبت أنت بهذا الأمر المشهور؟ ثم قال لهم: إني لم أعظم جائزة الشيخ استغراباً لما أجاب به وإنما قصدت بذلك إظهار تعظيم أهل العلم وترغيب الناس في تعليمه والحث عليه. وبمثل ذلك كان العلماء لا يتخلفون عن مجلسه وهو يوسعهم براً وكرماً، مؤدياً لحقوق احترامهم الواجب، حتى أنه لم يشرب الدخان في مجلس اجتماعهم، ويتكلف في ليالي الشتاء الخروج لإجل التدخين حتى لا يرتكب ذلك بينهم. ولما راوده بعض العلماء على عدم الخروج متعللاً له بعدم الفرق بين دخان الاستنشاق المستعمل عند جميعهم وبين التدخين، أجابه بأن عموم كراهة رائحة التدخين فارقٌ بينهما وأنه يجتنب ذلك قياماً بواجب حق علمهم.
وفي مجلسه العلمي كان اجتماع الشيخ محمد الشحمي مع الشيخ لطف الله الأعجمي شارح أسماء الله الحسنى حين وفد على تونس عام ثمان وسبعين ومائة وألف ووقعت بينهما محاورة في علوم حكميّة اعترف في آخرها بفضل الشيخ الشحمي، وكان جسيماً فوضع الشيخ لطف الله يده على بطن الشيخ الشحمي، وقال له: إنها ملئت علماً لا شحماً. وهكذا كان الأمير يجمع بين يديه العلماء وتقع بينهم المحاورات وينثر بينهم نثار الذهب، ويتحلى من اجتماعهم بأحسن حليّ الأدب، ويوسع جميعهم براً وعطاءً. يرجو به من الله جزاءً، ويرجعون من بيته الرفيع ولسان حالهم ينشد: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
بل هذا البيت أنشده بين يديه لسان مقال أحد الجلة الحاضرين في بعض الليالي عندما أجزل لهم العطاء من نفائس اللآلي فأصبح تضمينه مجالاً لتسابق فصحاء الشعراء وضمنه جميعهم في قصائد بديعة، من أجلها تضمين الشيخ الحاج حمودة ابن عبد العزيز في آخر قصيدة يخاطب الأمير بقوله: [لطويل]
إذا زارك الوفد انثنوا وجميعهم ... من البحر ذي التيار للدر جالب
فيشكرك الركبان من كثرة الجبا ... وتشكوك من ثقل العطايا الركائب
ومذ صدوراً والعيس كالنخل ... إذْرها سألناهُم كيف العلا والمناقب
"فعاجوا فاثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب"