وسافر سفيراً إلى إيطاليا لتهنئة ملكها بجلوسه على سرير الملك. وكان ركوبه صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين ورجع يوم الخميس الثامن عثر من صفر. ثم سافر إلى باريس عند افتتاح معرض سنة ١٨٧٨ مسيحية صبيحة يوم السبت التاسع من جمادى الأولى ورجع يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الثانية.
واستمر على مباشرة خدمته مع القيام بشخصيات مصالح مخدومه، ثم ارتقى إلى خطة الوزارة الكبرى والوزارة الخارجية ورئاسة الكومسيون المالي بعد استعفاء من قبله. وباشر التصرف في الخطط المذكورة على الوجه الأتم.
وحين أقبل عام سبعة وتسعين اجتمع بعض أعيان الأهالي على عمل مصحفين كريمين دفتاهما ذهب مرصع بالألماس وخرج يوم رأس العام وفد من أعيان الأهالي يقدمهم الشيخ محمد الشريف إمام جامع الزيتونة وتلقاهم الأمير بموكبه المحتفل بسراية باردو وعن انتظام الموكب خطب الشيخ خطبتين في الغرض الذي قدموا من أجله وقدموا المصحف الأول هدية للأمير والثاني هدية للوزير فخطب الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب على لسان الأمير خطبة هذا نصها:"الحمد لله فياض ذوارف المنن، الذي أنبت في قلوبنا حب الوطن، النبات الحسن، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي فاز بطاعته المحسنون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً يتأرجان عن شذا الزَّهر، ويتبلجان عن سني الكواكب الزُّهو.
هذا ويا أيها الملأ الأعيان إن أسعد أماني وأقصى آمالي، تقدم البلاد ونجاح الأهالي، ولما انطوت عليه ضمائري من حب بلادي ومملكتي، ومنبتي ومنبت سلفي وعترتي، فلم أزل أخلص لله في وسائل أمنهم وراحتهم نيتي، وأعقد على جر خيرهم طويتي، فتخيرنا لكم من آثرناه لخدمتنا، وربيناه تحت كنفنا، وفي ظل نعمتنا، وأحللناه محل الولد، وفلذة الكبد، وهذبنا بالآداب خلقه، وعلم سبب العمران وفئ قه، فجاء على قدر، وسبق إلى كل مكرمة وضاحة الغرر، مع حسن الطوية وخفض الجناح للمضطهد والمضطر، فما اخترت لمصالح البلاد إلا غرْسي، ولا أحببت لها إلا من أحببته لنفسي، وهو الصدر العماد وزيرنا الأكبر ابننا مصطفى بن إسماعيل آغا. أسبغ الله تعالى على الجميع آلاءه إسباغاً.
هذا وإن مقدمكم أيها الملأ الأعيان، وقع مني موقع المسرة والاستحسان، وتلقيت هديتكم كاب الله تعالى المجيد أمان الأرض، وشارع الشريعة وفارض الفرض، ومنار الهداية إلى سواء السبيل، بغاية من القبول والتعظيم والتبجيل، والله عز اسمه وري الإعانة، على القيام بأعباء الأمانة".
[القسم الأول]
[في التعريف بأئمة جامع الزيتونة]
أدام الله عمرانه اعلم أن هذا البيت العتيق من المواضع المباركة في بلاد الإسلام، وصومعتُه كان يتعبد بها أحد الرهبان، وكانت إلى قربه زيتونة، وهنالك موضع شيخه الراهب صاحب الصومعة بسياج من الشوك حفظاً له، ولما أقبلت العرب على ذلك المحل سألوا الراهب عن سبب وضعه ذاك السياج في ذلك الموضع فأخبر أنه يرى في كل ليلة عموداً من نور متصلاً بالأفق فأراد حفظه من الأقذار. ولما قدم حسان بن النعمان الغساني الأزدي على عهد عبد الملك بن مروان ووصل إلى تونس سنة تسع وسبعين من الهجرة وفتحها في أخبار مذكورة أسس عند تلك الصومعة هذا الجامع الأعظم وجعل المحراب في موضع عمود النور، وأبقى شجرة الزيتون فسمي بها. ثم لما قدم إلى تونس عبيد الله بن الحبحاب على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين ومائة فقان سقف بيت الصلاة مقاماً على أكثر من مائة وخمسين أسطوانة من الرخام وبعضها مرمر. وقد جاء تاريخه (اعلم ١٤١) المرتسم على الأقواس التي فوق التوابت. ثم إن زيادة الله بن الأغلب بنى فيه الأبنية الضخمة حين بنى سور الحاضرة التونسية ونقش في القبة التي فوق المحراب اسم أمير المؤمنين المؤمنين المستعين بالله بتاريخ سنة خمسين ومائتين فكان تأسيس هذا الجامع الأعظم على تقوى من الله في البقعة المباركة.
وفيه مواضع كثيرة معروفة بمحلات استجابة الدعاء وأماكن أخبر عنها أصحاب الكشف أنها محل لحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لخاصة أولياء الله رضي عنهم أجمعين.