للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي آخر أمره اختلف عليه بنوه وكابد منه ولده نصيره يونس باي عَرق القِربةِ! حتى وثب للطيران إلا أنه تحزب على والده وتحصن بالقصَبة هو ومن معه فدخلها ظهر يوم الاثنين تاسع جمادى الثانية سنة خمس وستين ومائة وألف وكان النصف القبلي من البلاد في نصرته، فأطلق المدافع ودافعه أبوه وأطلق الكور في وسط البلاد واستمر الحال على ذلك بعد توسط العلماء في إصلاح ذات البين ولم يغنوا شيئاً إلى أن نفدت ذخائر القصبة فخرج هو وكاتبه أحمد السُّهيْلي من مماليكه وأتباعه ضحوة يوم السبت الثالث من شعبان وأبقى أبناءه الثلاثة أحمد باي وإسماعيل باي ومصطفى باي وفر بمن معه إلى قسمطينة. وعند ذلك دخل أخوه محمد باي إلى الحاضرة وسفط السيف على من قدر عليه، وأظهر ما في نفسه من الحقد واحتقار وجوه الناس وأبوه مرتض لصنيعه. ولم يزل يتمادى في سوء صنيعه حتى فوق سهمه لأخيه سليمان وخشي من وراثته الملك بعد أبيه لما يرى لأبيه من إيثاره عليه لما فيه من الأهلية فعاجله بالإطعام فمرض أسبوعاً وفاضت نفسه على حين لم يكن والده ليتوقع له ذلك، فتوفي ظهر يوم الجمعة من صفر الخير سنة ثمان وستين ومائة وألف، وترك ولده نعمان باي، فعدم أبوه بمكيدة ولده وسوء صنيعه بأخيه، وتحقق أن الله أذاقه بأس ولده محمد بإعدامه لعضدي نصرته يونس بالفرار وسليمان بالممات. وكان ذلك من مبادىء انتقام الله منه، والله عزيز ذو انتقام.

وقد كان علي باشا باي مع سفكه للدماء وامتهانه للخاصة وإضراره للمملكة بمظالمه- معدوداً في العلماء، وشرح تسهيل ابن مالك النحوي شرحاً مهماً اعتكف الناس على قراءته بجامع الزيتونة مدة دولته، وقرظه سائر علماء عصره. وكتب عليه الشيخ أبو الحسن علي البارع قوله: [الكامل]

لله شرح للأمير موضح ... لم يتصف بصعوبة التلويح

سهل التناول بالخفاء مصرّح ... قد فاق في التسهيل والتصريح

فإذا افتقرت إلى كتاب موضح ... فكتابه المغني عن التوضيح

وقد كان الباشا مع علمه ولوعاً بالكتب واكتسابها، وبنى تربته التي بالقشاشين ومدرسة الباشية، وقدم لمشيختها الشيخ محمد المحجوب الحنفي، وبنى المدرسة التي نسبها لولده سليمان، وقدم لمشيختها العالم الرباني، الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني. وجميع هاته الأبنية كانت حول الجامع الأعظم. وبنى مدرسة بئر الحجار وقدم لمشيختها الشيخ مسعود المغراوي الباجي. وبنى مدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي. وجميع هاته المدارس أوقف عليها أوقافاً من الربع والعقار تخرج منها جرايات كافية للشيوخ والتلامذة إعانة على طلب العلم الشريف. واعتنى بتحصين البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم حانات الحفصية، ومنع بيع العنب لمن يعتصر الخمر، وبنى المباني الضخمة بباردو. ولما امتلأ مكياله ولاقى من عقوق بنيه ما صنعه لعمه وقيدته هموم فقد ولديه بعد أن جمع جميع أموال المملكة بين يديه دهمه الخبر بتجهيز أبناء عمه بالمحلة المنصورة من الجزائر تحت رئاسة حسن باي، فوردت المحلة إلى الحاضرة مع من حشد إليهم من الأعراب حتى نزلوا قبلي الحاضرة، ولج الباشا هو وابنه محمد في القتال حتى انهزما معاً، وقتل ولده محمد قرب الملاسين، وترك ولدين، وهما محمود باي ويوسف باي. واستؤسر الباشا بمحلة الجزيريين وأقام في الأسر عند حسن بايمما الجزيري على حال سيئة أياماً تعادل أعوام تملكه. ثم أمر بقتله فقتل أواسط ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف.

وقد استكمل استقصاء خبره مع عمه وخبر أبناء عمه المؤرخ الشيخ محمد ابن يوسف الحنفي الباجي في تاريخه المسمى. "المشرع الملكي، بدولة أبناء علي تركي" بما يشفي الغليل. وقد دفن حيث دفن ولداه بتربته. عليه رحمة الله وأرخ وفاته كاتبه الشيخ محمد الورغي بقوله:

مضت دولة الباشا عليِّ كأنه ... من الدهر يوماً في البريةَّ ما عاشا

أتته المنايا وهو في عُظم قوة ... وجيش كثيف مثله قط ما جاشا

فصار دفيناً بعد ما كان دافناً ... فقلت وقد أرخته: دفن الباشا

[٣ المولى محمد الرشيد باشا باي]

[١١٢٢ ١١٧٢]

<<  <   >  >>