ولما هاجر الشيخ العيوني لطريق الله وأعرض عن الدنيا وكان الإمام الثالث بجامع الزيتونة أرسل إليه الأمير حمودة باشا للتقدم إماماً ثالثاً وكان وقتئذٍ مقيماً بجبل المنار فامتنع من ذلك كل الامتناع حتى أتاه خليفة الجامع الشيخ عمر المحجوب وبه مرض وأكرهه على قبول الإمامة فقبلها يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة ١٢٢٠ عشرين ومائتين وألف، وكان الإمام البكري يومئذٍ محجوراً عليه والخليفة مريضاً فلازم الشيخ الإقامة في الجامع وأقام الخمس والجمعة وعمر ما بين أوقات الصلاة بدروس يقربها فكان زينة لجامع. وحج بيت الحرام واستمر إماماً ثالثاً إلى أن توفي الشيخ الطاهر بن مسعود فقدمه الأمير محمود باشا خليفة بجامع الزيتونة أواخر صفر الخير سنة ١٢٣٤ أربع وثلاثين ومائتين وألف، فزان الخطة إلى أن استكمل من العمر خمساً وثمانين سنة (٨٥) وتوفي ليلة الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ١٢٤٥ خمس وأربعين ومائتين وألف وقيل في تاريخه: رحمة الله عليك يا عمر.
وأما ولده صاحب الترجمة فقد ولد سنة ١١٩٠ تسعين ومائة وألف وأخذ عن والده وعن الشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ صالح الكواش والشيخ أحمد بن الخوجة. والشيخ أحمد بوخريص وتصدى للتدريس، فبث في صدور الرجال در علومه النفيس، وحج بيت الله الحرام فأقام بمصر نحو ستة أشهر واجتمع بعلماء الجامع الأزهر ولازم العالم الرباني الشيخ النميلي هنالك ولم يقدم على الخروج لزيارة ضريح سيدي أبي الحسن الشاذلي بدون إذن تأدباً معه رضي الله عنه ورجع سالماً.
ولما تقدم والده إمامة جامع الزيتونة استولى هو عوضه إماماً بجامع باب الجزيرة في جمادى الثانية سنة عشرين ولازم التدريس.
ثم أكره على خطة القضاء في ذي القعدة الحرام سنة إحدى وأربعين فقضى بحكمه العدل، وقضائه الفصل، نحو التسعة عشر شهراً ولما توفي كبير أهل الشورى المحجوبي الثاني قدمه الأمير حسين باشا مفتياً ثالثاً سنة ١٢٤٣ ثلاث وأربعين ومائتين وألف فعاد إلى التدريس بجامع الزيتونة ولازم الإفتاء.
ولما توفي والده قدمه الأمير إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة وشيخاً في المغارة الشاذلية فزان الجامع بحسن التلاوة والعلم والعمل وخمّل الطريقة الشاذلية ولازم الفتوى، بعلم وتقوى، وكانت الشيوخ يجتمعون في داره في كل أسبوع ليلة المجلس للنظر في النوازل الشرعية حتى يقع الانفصال بينهم هنالك يقيمون تلك الليلة في المسامرة العلمية إلى صلاة الصبح كما هو شأن المتحرين لدينهم.
ولما توفي الشيخ إسماعيل التميمي ولي مشيخة المدرسة الأندلسية سنة ١٢٤٨ ثمان وأربعين ومائتين وألف تقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة ١٢٥٨ ثمان وخمسين فعظم به نفع المنقطعين لقراءة العلم الشريف.
ولما ولي الشيخ محمد بن سلامة مفتياً ثانياً عاد مفتياً رابعاً وجاءه الشيخ المذكور لداره يعتذر إليه فلم يتأثر من ذلك كشأن الأخيار ولازم التدريس والإفتاء ونفع الله بعلمه. وقد أخذ عنه جل شيوخنا الذين أدركناهم وهو عالم فاضل خير فصيح تقي بالله متلبس بأخلاق الصالحين محب لهم عزيز النفس ملازم للتدريس حسن القامة إلى طول آدم اللون طويل الوجه والذقن غلب عليه الشيب ذو سكينة ووقار جهوري الصوت في خطبه وقد خطب كثيراً من إنشائه ولم يزل على كمالاته إلى أن توفي وهو المفتي الثالث والإمام الثالث بجامع الزيتونة أوائل صفر الخير سنة ١٢٦٣ ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن جوار والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من المغارة الشاذلية عليه رحمة الله وقد رأيت من مدائحه قصيدة أنشئت بين يديه عند ختمه الوسطى في علم الكلام بجامع الزيتونة أوائل ثاني جمادى سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف من شعر تلميذه يومئذ المفتي الشيخ محمد بن سلامة وهي قوله:[الطويل]
لذيذ الهوى دمع تعوده السفح ... وقلب له من حرّ لاعجه لفحُ