ولما توفي الشيخ البنا صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ صالح النيفر صار مفتياً ثالثاً، لوما توفي الشيخ علي العفيف قدمه الأمير مفتياً ثانياً.
ولم يزل سالكاً حالته في الاجتهاد في التدريس اليومي حتى تخرج عليه كثير من فحول جامع الزيتونة وتيسر له بمواظبته وحسن تضلعه في الصناعة أن ختم كثيراً من مهمات الكتب المتداولة الإقراء بالجامع حيث إنه لا يشغل درسه بشيء من فراغ المباحث اللفظية، وجميع درسه تحقيقات علمية مع الأخذ بمجامع الكلام فيجمعه في قالب سهل التناول، لكل سامع مع كثرة ما يقريه من المسائل وفي سنة ١٢٧٩ تسع وسبعين ختم شرح الأشموني على الألفية وما هو بأول أختام هذا الكتاب ومدحه عند ذلك تلميذه المدرس الشيخ محمد بن مصطفى بيرم بقوله: [الطويل]
فمثلك أفق العلم أضحى منجملً ... وباهى بك بدراً منيراً إذا سما
وتوج هامَ المجد منك مفاخرٌ ... ترَّقى بها في العاليات معظَّما
وقلد جيدَ الفخر منك لآلئٌ ... على سمطها تبدي بهاءً منظما
وملء صدور الفضل منك جلالة ... فلله يوماً كنت فيه المقدما
به أقبلت بشرى الهنا بمحمد ... لعرش المعالي إذ له قد تسلما
فأصبح يشدو أنه نال ما بدا ... بليغاً فصيحاً كاملاً ومفخما
بيان المعالي سلسل من رحيقه ... يسوغ لذيذاً رشفه ومُنعِّما
تفرس فيهالدهر أنه عالم ... فميزه بالشاهد الفذ إذ طما
رياض التقى كانت عليه مهابة ... تجلى بها في موكب قد تسنما
يحاكي ضياء الشمس إشراقُ نوره ... ويربو على الأعياد بشرى وموسما
ويبدي ويعلي في سماء مهابه ... من المكر والإنجاب شهبا وأنجما
فوافيت ختم المزج فيه إبانهً ... وأوليت من إبداع كشفه الغمّا
بقيت تظل الروض من علم مانح ... يفيض المزايا من بحار تكرما
ودم وابقَ واعزز واتقي ورق وقل ... وحل واسعد وامنح وزد وانح واسلما؟
وقد توفي على خطة الإفتاء بعد زوال يوم ال؟ أربعاء الرابع من ذي القعدة سنة ١٣١١ إحدى عشرة وثلاثمائة وألف ودفن يوم الخميس بالزلاج عليه رحمة الله.
[٤٥ الشيخ محمود قابادو]
هو شيخنا أبو الثناء محمود بن علي بن محمد قابادو الشريف، أصلهم من صفاقس وأهل بيته من أرباب صنائع عمل الأيدي وقد تنقلوا إلى تونس وبها ولد صاحب الترجمة سنة جمس وثلاثين ومائتين وألف وأرخ ولادته بقوله (ولد الشيخ الأكبر) يعني الشيخ محيي الدين لما له من الولع بحبه والتعلق به. وقد نشأ نشأة صالحة فلاحت عليه مخائل البراءة في صغره فقرأ مبادئ النحو ثم تعاطى الأسماء والأذكار، وتشوق إلى مراقي الأسرار، وساح بالتعرف إلى العزيز الجبار.
وارتحل إلى طرابلس في أخذ المدد من الطريقة المدنية وكان يعتريه الحال فيجد على لسانه أشعاراً رائقة فيأخذ في كتابتها في ظلمة الليل الداجي فيجد النور يضيء على قلمه فيكتب ما شاء. وكان شيخه ينهاه كثيراً عن ارتكاب مثل ذلك فلم يكن منه إلا التمادي حتى انقشع عنه سحاب تلك الحال، وعاد إلى تونس ثابتاً محنكاً بالفصاحة. فتعاطى التدريس والمطالعة ويقال إنه في أثناء ذلك قرأ على الشيخ محمد معاوية والشيخ أحمد بن الطاهر وعلى ثبوت ذلك فإن العلم الذي ظهر عليه أعظم من ذلك بكثير ولا طريق له إلا الفتح الإلهي فقد ظهرت عليه علوم شتى أعظمها علم القوم، فكان فيه المفرد العلم، العارف بأذواقهم وأفهامهم. وأما الفصاحة والبلاغة ونظم الشعر الذي لم ينسج على منواله سابق فتلك رتبة يدركها كل مطالع لديوان شعه الذي جمعته له بعد وفاته وتيسر بعون الله طبعه في جزأين وقرظه جميع أدباء الحاضرة وكثير من أدباء الجهات الشاسعو حتى بلغت تقاريظه ما يصلح أن يكون كتاباً من الشعر والنثر.
وقد كتبت على ظهره قولي: [الكامل]
هذا الذي نظمت به الآباد ... عقداً به تتفاخر الأجيادُ
تنسي محاسنه القلائد والمخا ... ني إن زها بنظامه الإنشادُ
فيريك (نفح الطيب) مع زهر الريا ... ض بزهرِ أفق بلاغة تنقادُ
جمع المحاسن زهرها والزهر في ... ديوان شعر أبي الثناء قابادو