طالعت المجلة الزيتونية الزاهرة ووقع بصري على عنوان رثاء فقيد العلم الإمام محمد الصادق النيفر فرماني هذا العنوان بسهم من نار فإذا الفؤاد يتلظى والفكر يتقلب في ذكريات العهد الذي كنت أتمتع فيه بصحبة الأستاذ الفقيد ورابطة الصداقة بيني وبينه خالصة محكمة.
تقدمت الأستاذ الراحل في تلقي العلم ببضع سنين وكنت أراه فيمن أرى من طلاب العلم وهو يشار إليه بأنه حفيد العلامة القاضي في ذلك العهد الشيخ محمد الطاهر النيفر وكنت ألاقي الفقيد في الطريق فيبادرني التحية فأقدر له ذلك الأدب السني، واللبنة الأولى في بناء صداقته المتينة أني كنت يوماً جالساً يوماً بالجامع الأعظم فأقبل رحمه الله وجلس يحييني في تواضع زاده في عيني رفعة وأبدى رغبة في دراسة علمي العروض والقوافي، وأذكر إن لم تخنّي الذاكرة أننا قرأنا على وجه المذاكرة فصلاً أو فصلين من علمي العروض بالحجرة القائمة على يمين المصلى بالمعهد الزيتوني فعرفت في ذلك الفتى يومئذ نباهة الألمعي وأدب الماجد السري وانتظمت الصداقة بيني وبينه في صفاء وسماحة.
وما زال ذلك الفتى البارع مجداً في طلب العلم حتى رأيته أستاذاً يدرس الكتب العالية بالمعهد الزيتوني وطلاب العلم يزدحمون على دروسه ويردونها ورود الظماء للماء الزلال.
وأذكر أني أديت صلاة بعض الجمعات في جامع باب البحر وكان الأستاذ الراحل رحمه الله يلقي على منبره خطباً بليغة يراعي في اختيار مواضيعها ما يستدعيه الحال، وكنت أعجب بما أسمع وآنس من تلك الخطب فواتحَ إصلاح الخطابة المنبرية في توني.
ولا أنسى تلك الليالي ليالي الجمعة من كل أسبوع إذ كان الأستاذ يتفضل بالزيارة ونقضيها في أسمار ممتعة يجاذبنا أطراف أحاديثها فريق من طلاب العلم، ثم لا أنسى أوقاتاً عصفت بها رياح الرياسات وأدارت وجوه بعض الإخوان إلى ناحية غير ناحيتنا، ورأيت الأستاذ الراحل من أشد الإخوان احتفاظاً بحقوق الصداقة شأن من يعتز بعلمه ومجده ولا يرضى أن يكون لاتجاه بعض الرياسات أثر في وصل صداقته وقطعها.
كان ذكريات ذلك العهد تخطر فتجد في النفس أمل لقاء ذلك الصديق الراحل وتجديد ما درس من عهد الأنس به فلا تثير من الأسى ما يجرح الفؤاد من كل ناحية، أما اليوم وقد ذهب ذلك الأمل فأراها تخطر فتثير أشجاناً يذوب لها القلب وتتساقط العبرات.
أجل ذهب ذلك الأمل المروح عن الخاطر وأصبحت ذكريات عهد تلك الصداقة تبعث حسرات بعضها فوق بعض فتجعلها ركاماً وإن كان هناك ما يخفف من وقع هذا المصاب فهو أملنا أن يكون لعلم الأستاذ الراحل وفضله ورثة من أنجاله النجباء يحفظون التالد ويعززونه بالطريف ويوطد هذا الأمل أن بيت آل النيفر قد عرف أنه منبت العلماء الراسخين والأدباء البارعين، وإني ألمح في شباب هذا البيت اليوم همماً طماحة للمعالي وجهوداً من أصدق الجهود في إعلاء شأن العلم والأدب والفضيلة وأقدم لآل الفقيد على هذه الفاجعة خالص التعزية وأسأل الله تعالى أن يفيض على ضريحه نوراً ورحمة ويحسن جزاءه على ما بذل في سبيل الخير من همة وما غذى العقول من علم وحكمة.
(من تراجم المفتين على مذهب الإمام مالك، للشيخ محمد البشير النيفر، الكراس الثاني ص ١٨٤ مخطوط)
[عمله الوطني]
وبذل المرحوم الشيخ محمد الصادق النيفر جهداً مشكوراً وتفانياً في العمل حين كان من أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري مما خلده التاريخ له.
ومن أعماله البارزة رئاسة الوفد الذي ذهب لمقابلة المرحوم الأمير محمد الناصر وذلك في ٢ شوال سنة (١٣٣٨هـ) و (١٩٢٠م) وقد ضم هذا الوفد أعيان المملكة التونسية في ذلك العصر، وقد قصر المرسى حيث مقام الأمير المذكور.
وقد ألقى رئيس الوفد كلمة منشورة في كتب التاريخ التونسي.
كما قدم عريضة المطالب التونسية في إقرار دستور تونسي للبلاد، وذلك أول عمل وطني للتونسيين.
[من مراثيه]
أنشدت عند وفاته مراث طفحت بها الصحافة التونسية عند ذاك، ومن مراثيه مرثيتي التي عنوانها (دمعة مقروح) ومطلعها:
مصابك يا شيخ الشيوخ عظيم ... وذكرك رغم الحادثات مقيم
-محمد الشاذلي النيفر- @بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجزء الرابع من كتاب مسامرات الظريف بحسن التعريف