وأتم الجسر العظيم الذي ابتدأه والده على وادي مجردة في طريق بنزرت، فكان إتمامه بغاية الإحكام. وأقام جسراً بين سوسة والمنستير قطع به سعي الثعابين السارية، فتواصل ما بين البلدين، بدون أين، وأصلح قنطرة وادي أبي حميدة بالفخص قرب زغوان. وبنى زاوية الشيخ سيدي مدين التي ببطحاء سيدي المشرف وأتقن بناءها ويسر بها مرتفعات السكنى لأهل الحرمين الشرفيين، وأقام بها أحزاباً وأوراداً أوقف عليها أوقافاً لم يزل ثوابها جارياً عليه, وأمر بجلب ماء عين زغوان العظيمة الماء المنهمر لكفاية البلاد مؤونة العطش، فجلب الماء في الأنابيب الحديدية الضخمة من بلد زغوان إلى تونس، إلا أن وصوله كان بعد انتقاله إلى جنة النعيم. وأقام المجلس البلدي لتنظيم البلاد والنظر في عامة مصالحها، وجعل أعضاءه من أعيان أهل البلد تحت رئاسة مستشار خارجيته حسين فكان هو أول واضع لهذا النمط الكفيل بمصالح البلاد في ربيع الأول سنة خنس وسبعين ومائتين وألف. وكانت مدة دلته أحسن من الابتسام في ثغر الأيام.
وُلِعَ بسكنى المرسى، وأقام فيها الأبنية الفاخرة الدالة عل علو همته، ولازمها في أغلب أحايينه، وضرب حول أبنيته الضخمة فسطاطه الضخم المتسع الرائق الكسو والابتهاج، وجعله محكمته يجلس فيه عند الحكم، ويحضر به رجال الدولة وأرباب الخدمة، وخيام العساكر وخيام العساكر الحارسة مضروبة حوله وقلوبهم جذلانة مطمئنة بالسرور والاستبشار. وخرج إلى حمام الأنف الشامخ، فتوجه بالأبنية الضخمة التي ثبتت على قديم بنائه الراسخ، وزادر فيه أبنية كثيرة وضرب حولها الخيام، وأقام فيها عساكره الكرام، وقضاها أياماً يقصر اللسان عن وصفها بذل فيها العطايا والتكرمات، ونفيس المطعومات والمشروبات، ولازم به الطراد والصيد مصحوباً بآحاد أهل الرماية، وإن برز على جميعهم بما له من الإصابة والدراية، كثيراً مات يكون راكباً في كروسته فيرى الطائر فيتناول مكحلته ويصيبه حالة كون كروسته سائرو. ولربما عين ريشة من أحد جناحيه فبل الرمي فلم يخطئها ويجعل الخاتم غرضاً فلا تخطئ رصاصته حلقته. وكم له في هذا الباب من خبر مع أنه فارس الفرسان، لا يجاريه في مضمار الفروسية والرماية إنسان. وقد أبعد الشيخ علي الرياحي في قصيدته الطرادية التي امتدحه بها في بعض خروجاته للصيد لإذ قال في أثنائها: [الكامل]
ملك تعود بالنوال فكفه ... تنلُّ واكفةً بما لم يسأل
حتى أضاف الوحش في فلواته ... وسقى دم الرِئْبَال بنت الجيأَلِ
في يوم صيد هاج حرب هياجه ... لله من يوم أغر محجل
نفسي الفداء لمن حوله فيه المدى ... وأبان آية مجده المتأثل
ما عنَّ فيه واقع أو طائرٌ ... إلا رماه بالقضاء المنزلِ
يرمي فيُمصي ماشياً أو راكباً ... متأملاً أم ليس بالمتأمل
فإذا نظرت إلى مجال طراده ... لم تلف غير معقرٍ ومجدلِ
عجباً كان ثقيله ذا فطنة ... أم كان فيه مغنطيس المقتل
لو ساعدته إلى المطار سبوحه ... شن الإغارة بالسماك الأعزل
كرمت فكانت للكريم وقلما ... تجد الشبيه لغير مشبهه ولي
يا فارس الفرسان غير مدافع ... وأجل من نيطت حلاه بمحمل
يا ابن الحسين محمد المولى الذي ... ورث السيادة أفضلاً عن أفضل
إن الفراسة والرماية دون ما ... لك كم حلى المجد الأعز الأطول
وقد بنى بين قصور باردو المعمورة قصراً تحار دونه الألباب، أتى فيه من بدايع الأبنيو بالعجب العجاب. وكان مع ذلك ولوعاً بكثير من دقائق الصنائع بحيث أنه استخدم عنده لعمل نفسه معامل كثيرة في الصياغة والسبك والخرط والتمويه وعمل التحف من الأواني ومستقطرات العطور الفائقة وعمل العنبر الرفيع مما كان به في دولته رواج المصوغات والأحجار الثمينة وأنواع الطيب الرفيع ورقائق الصنائع الفاخرة حتى أنه أرسل إلى فرانسا وجلب المعامل والآلات.
وفي أثنائها جلب أحرف الطبع وآلات الطبع الحجري واستعمل المطبعة في الحفصية لطبع التذاكر الخفيفة العمل فهو أول من أدخل المطبعة إلى البلاد.