وهو أول من ضرب سكة الذهب والفضة والنحاس باسمه في أحد وجهي المسكوك واسم صاحب السلطنة العثمانية بالوجه الآخر وكانت قبل ذلك مسكوكات الفضة والنحاس لا غير إنما يضرب فيها اسم صاحب السلطنة العثمانية، ويذكر في الوجه الثاني اسم تونس فقط. فتح لذلك دار السكة التي بباردو واعتاد ضرب جميع أنواع السكة عند رأس كل سنة وتوزيع سائر أنواعها على آل بيته ووزرائه ورجال دولته فهو أول من أجرى هذه العادة التي تنبئ على حسن بذله وكرم فضله.
ومن ولوعه بدقائق الأشياء أنه أرسل إلى النمسا في جلب تحف الأواني الثمينة وقد تيسر له التوسع في أبواب الترف مع إتقان تنظيم منزله الرحب العامر بتنزيل كل واحد من حاشيته وأتباعه منزلته. وما منهم واحد إلا وهو يرجوه ويخشاه، حتى كان قصره على أحسن حالة من التنظيم والسكون وغاية إتقان وع الأشياء في مواضعها مما يتلى حديثه في علو الهمة والبذاخة ولطف المأكل المتنوع الرفيع والملبس المتجدد الفاخر، والتطيب بما لا حد له، وحسن المركب على الخيل المسومة والسروج المملوكة المرصعة. وتنعم في رغد ذلك العيش سائر آل بيته وخواصه ورجال دولته حيث كان ملتزماً لاستصحابهم اصطناعاً لهم، ومع كمال تودده، جميعهم يخشى سطوته لعلمهم بعدم مبالاته في الحق وإن كان آية الله في الوفاء والحنان مع الكرم الحاتمي الذي كفى به كثيراً من الناس وجلب به قلوب الخاصة وأثّل به الصيت الشهير في الممالك الأجنبية.
قدم على عهده ولد ملكة انكلترا فأكرم نزله وأراده من بذاخة الملك ولطف الصنيع ما لم ير مثله في ممالك الدنيا، وأهدى إليه من النفائس الدرية والتحف العنبرية والملابس المنوعة والسروج المرصعة ما عظم به شأن المملكة، كل ذلك كان بما جبل عليه من كرم النفس وسعة ذات اليد وعلو الهمة, والأهالي في أثناء ذلك كله متواصلو الأمن والأفراح، وجميع أرباب الصنائع والفلاحة أصبح السعد مساعدهم بمساعدة لصاحب مملكتهم.
ولما مهد السبل أصدر عهد الأمان لسائر السكان في حفظ النفس والمال والدين والعرض، وعم بذلك سائر أهل الملل المختلفة وبناه على إحدى عشرة قاعدة هي أصول قوانين الجنايات، وكان صدور المنشور المذكور بتاريخ عشرين من المحرم سنة أربع وسبعين، وطبع بالطبع الحجري يومئذ وجمع أعيان علماء البلد ورجال الدولة للمفاوضة في العهد المذكور ليضعوا قوانين الجنايات المبنية على ذلك الأساس.
أما كرام بنيه فه سعيد باي، وحسين باي، محمد الناصر باي، وإسماعيل باي، والهادي باي، ومحمود باي، أما الثلاثة الأخيرون فقد أسرعوا إلى النعيم على حين الصغر. وأما أكبر بنيه فقد أدركته السعادة في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثمان وسبعين. وكانت ولادة حسين باي في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة خمس وخمسين. وكانت ولادة الناصر باي في الثامن والعشرين من شوال سنة إحدى وسبعين. ولايوم هما أعزهما الله من أكمل كواكب أفق الملك، وأجمل درر ذلك السلك. وقد كان أبوهما صاحب الترجمة شهماً ثباً، حازماً بحاثاً عن الرعية، سليم الطوية، دمثَ الأخلاق، لين العريكة، جذلان القلب، متمتعاً بأمن المملكة ونضارة عيش أهلها إلى أن أدركته السعادة فسار إلى رحمة ربه ليلة السبت السادي والعشرين من صفر الخير سنة سبعين ومائتين وألف ودفن بالتربة ورثاه الشيخ محمد بيرم الرابع بقوله: [الطويل]
عجبت لهذا الدهر يسلب ما يسدي ... ويلحم من نسج ابن آدم ما يسدي
ويورده محض السراب مخادعاً ... وبمزج في إطعامه السم بالشهد
ومصداق ذا هذا الموسد خده ... ثرى الرمس معتاظاً من الدَّست باللحد
تزخرفت الدنيا إليه وأوسعت ... له أملاً لم ترفه فيه بالوعد
وغالته مقظوم الأماني مسارعاً ... لقد سل سل السيف من أوسع الغمد
طوته كما يطوى الرداء ولم يكن ... بقاء لغير الواحد الدائم الفرد
ألا أنه الباشا المشير محمد ... سليل الملوك الشم سلسلة المجد
مليك له من نفسه الفخر وافراً ... وقد ضم الملوك الشم من الأب والجد
لقد كان ذا بشر وصدر موسعٍ ... رحيماً بريئاً من مصاحبة الحقد
وكم فاه عن حسن الطوية مفحصاً ... فيرجو الثواب الجزل عن حسن القصد