هو المشير أبو العباس أحمد بن مصطفى بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي. ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ونشأ بين يدي والده بتربية مصطفى صاحب الطابع إلى أن أتت الدولة إلى والده فتناوب سفر الأمحال مع ابن عمه.
ولما توفي والده تقدم للولاية وأجلسه على كرسيها ابن عمه وإخوته وتمت له البيعة يوم الثلاثاء عاشر رجب الأصب سنة وخمسين ومائتين وألف. فنهض للمملكة نهوضاً لم يسبق له نظير وأرسلت له الدولة العثمانية الخلعة السنية ونيشان المشيرية صحبة أريالة بك مصطفى البلهوان باش حانبه ومن بمعيتهما، وذلك على عهد السلطان محمود خان. فتقلد لباس المشيرية في مركب مشهود صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وخمسين ومائتين وألف. وعند ذلك نظم دولته وجمع رجالها، فكان مربيه مصطفى صاحب الطابع هو ذا اليد العليا والمرجع في الأمور، واستوزر مملوكه مصطفى خزندار، وجعل أمر الحرب لنظر مصطفى آغا صاحب الزغاية، ونظارة البحرية لمحمود كاهية، والتنفيذ للداي كشك محمد، وأمور الخارجية لنظر النصراني جوزاف راف. وجمع كتائب العساكر، وبنى الرباطات والأبراج، فبنى قشلة الطوبجية سنة ست وخمسين، وأتم بناء قشلة الخيالة سنة ثمان وستين، وبنى رباطات المحمدية وقصورها وحصونها التي أتم بناءها سنة تسع وخمسين.
واعتنى بالعساكر فجمع تحت رايته المنصورة من العسكر النظامي ما ينيف على الثلاثين ألفاً، واعتنى بتنظيمهم غاية الاعتناء يحضر مواكب تعليمهم بنفسه، وله بجميعهم برور تام مع شدة في الحكم العسكري ووقوف في مقتضيات القوانين العسكرية حتى انتهى في ذلك إلى أخبار يضيق النطاق عن حصرها. وقد أحيا ثغر غار الملح وعمره بالعدد والعدد، وشحن القشلة الكبرى وأبراج حلق الوادي بالرجال والمدافع والأسلحة النارية حتى طار له بذلك صيت عظيم.
ولما لم يكف لذلك مدخول البلاد وظف مكوساً وأرباعاً وأداءات على الأشياء المبتاعة توفر بها دخل الدولة. وتقدم لها حمود بن عياد فاستخلصها مضاعفة وهو المصدق في كل دعوى وتكلف بشؤون العسكر من طعام ولباس وغيرهما، فكان هو القابض والدافع، وجميع مداخيل الدولة له وجميع مخاريجها من تحت يده مدة خمس عشرة سنة, وأقام معمل الملف الذي قرب طبربة على يده وأتم بناءه سنة ستين ومائتين وألف. ولما سافر محمود بن عياد إلى باريس خلفه في قبض الأموال ودفعها في الدولة اليهودي نسيم شمامة.
ولما استكمل المشير استعداده خرج بنفسه لتفقد حال أطراف المملكة في جيشه الكثيف في ربيع الأول سنة ست وخمسين، واستصحب في سفره قاضي حاضرته الشيخ محمد بن سلامة، وباش كاتب الشيخ محمد الأصرم، وكاتب سره الشيخ أحمد بن أبي الضياف وغالب رجال دولته فطاف الناحية القبلية ودخل الوطن القبلي وعمل الساحل وصفاقس وقابس وفيها قتل القاتلين لآخذي المكوس التي رتبها وركب البحر ودخل إلى جربة وعاد إلى حضرته، وبذل في سفره المذكور مالاً عظيماً. ولما رجع أبطل جميع أداء الزيت والزيتون وجعل على شجر الزيتون قانوناً يؤديه سنوياً وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بالرابع من جمادى الأولى سنة ست وخمسين. وأبطل بعد ذلك ملكية العبيد في ٢٨ المحرم الحرام سنة اثنتين وستين.
وسافر باريس لمقاصد سياسية فخرج من الحاضرة صبيحة يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وستين مصحوباً بخاصة رجال دولته ورجع يوم الأربعاء الثاني عشر من المحرم الحرام سنة ثلاث وستين.
وأقام بناء باب البحر بناء في غاية الضخامة والإحكام، وأتم بناءه سنة أربع وستين.