أما معرفته بمدراك مذهب مالك بن أنس، فهي التي نصبت له المنصات فارتقاها وجلس، فقضى سنين قد انقضت كأنها سنات، وأتى فيها بالآيات البينات، أقام فيها قسطاساً لمنع الاعتساف، حيث تحلى ببدائع الأوصاف، وقام بأعباء الفتيا قياماً لم يعهد له مثيل، ورصع تاجها بمجده الأثيل، وأنار منبر تجرح الأفئدة والقلوب، ولا سيما حيث كانت من خطبه التي أبدع في تنظيمها على أفخر أسلوب، فإذا قام في منبره أو محرابه فيا فوز من وعى، فإنه يسمع الصم الدعأن فما ترى الحاضرين إلا وعيونهم تنهمر دمعأن إذ انصدعت قلوبهم من ذلك صدعأن وإذا روى عن جده خير البرية المصطفى، يلين له القلب الذي كالصفأن فكم هدى وأهدى، وأعاد من المزايا وأدى، إلى أن ألفت رئاسة الفتيا والإمامة أمرها لديه، وتوشيح كلتاهما بالانتماء إليه، بعد أن ولي الحسبة ووظائف وتنتهج بها تلك المناصب السنية.
وزيادة على ذلك فقد تحلى بكمالات لا تحصى، ومزايا لا تستقصى، فهمته قد ضربت على السماك أطنابهأن ونصبت على الجوزاء قبابهأن حتى انتعل السهأن وغدا إليه في كل مكرمة المنتهى، مع ما هو عليه من شرف الأعراق، ودماثة الأخلاق، بشاشته تملأ قلب ملاقيه حبأن وتوليه من التردد ما يختاره بعدا وقربا.
وكان كثير الميل إلى علم القوم، لا يختشى في ذلك من لوم، وله مزيد ولعٍ بمن بنتسب للشرف النبوي والصلاح، من أهل الخير والفلاح، فسلك في ذلك مسلك أستاذه شيخ الإسلام المالكي أبي إسحاق، وكرع من مناهل الطريقة التجانية أعذب الأذواق، حتى كان في خيسها ليثأن وانسجم بمعارفها غيثاً.
ولذلك نبؤه راع القلوب وفتت الكباد، وعم بالإصابة سائر العباد، فيا له من خطب أصاب أفئدة كانت لمودة هذا الهمام منسوبة، ورماها من نباله بأسهم مقشوبة، حتى عم الأسف سائر الأهالي، ونثرها عليه من الدموع وطيب الثناء أحسن اللآلي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعامله بالرضوان، ويجعله في جوار سيد ولد عدنان، فإنا لا نقدر على إيفاء حقه فيما ننثر وإن نظمناه، ولا يطيق أحد أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات قريحة تقرحت برزئة الجليل، وصارت تنثر مع أدمعنا أمثال هذه الأقاويل، وقد انتهز الفرصة في ذلك العالم الماجد، المبرز ببراعته على سائر الأماجد، النحرير اليلمعي، والفهامة اللوذعي، فرع مشايخ الإسلام، الثلاثة الأعلام، المتطلعين غرراً في جباه الأيام، صديقنا الذي لم تزل طريقة والده وجده له منهوجه، الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم لا زالت دوحة والده به في ابتهاج ونما كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهذا نصها: [الطويل]
إلى الله من خطبٍ تداعت له رجفا ... رواسخ أحلامٍ وقد أحكمت رصفا
تمطَّى به ليلٌ من الوجد حالكٌ ... يضل الكرى فيه فلا يعرف الطَّرفا
صلى كلَّ قلب من لظاه بمضرم ... يزيد إذا ما الدمع برَّده ضعفا
يحق له شقُّ القلوب إذا اغتدى ... يشقُ أخو الأحزان أثوابه لهفا
إلى الله نشكوه عظيم ملمةٍ ... عسى فرجٌ يولي دجنتهُ كشفا
ومنْ مارس الأيام هان به الأسى ... فكم روعت سرباً وكم رنقت صرفا
وهل سالمت من عهد آدم واحداً ... فيأمن مرتاحٌ إلى ظلها الحتفا؟
ويا ليتها ترعى ذمام ذوي العلا ... فتبقيهم لكن أبي طبعها اللطفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... أعد به دين الهدى للورى كهفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يمرُّ ولا يبدي الزمان له خلفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يبيدُ به جيش الضلال إذا اصطفَّا
قضى الله في قطب الرئاسة إن قضى ... فها أدمع الإسلام وأكفة وكفا
فمن لنوادي الفضل بهجةُ صدرها ... وملبسها من فضل أقواله شنفا
فمن للقضايا المعضلات يحلُّها ... بصارم فكر لا يفل ولا يحفى
ليبكه ملهوفُ الجوانح غلَّةَّ ... إلى عذب فتيا كان منهلها الأصفى
إذا أمَّةُ المرتادُ أبصرَ جنة ... بدائعها تدني لمن رامها قطفا
ترحَّل فاقتاد القلوب وراءه ... ولا غرو إذ تقفو المعارف والظرفا