يهنيك يا فخر الصدور سروركم ... بولاية النجل السعيد محمد
وله يومئذ مشيخة المدرسة العنقية وكانت خاربة جداً بحيث إنها صارت مرمى للأزبال فجمع ما انتشر من أوقافها وبادر إلى رمها شيئاً فشيئاً إلى أن أتم إحياءها في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وأرخ إتمامها من قال في ذلك: [الطويل]
ولما انتهى البنيان قلت مؤرخاً: ... (لقد تمّها من حينه الحبر بيرم)
وقد شمر رحمه الله على ساعد الجد، ولقي من مساعدة والده ما ليس له حد، فتجملت الخطة بكماله، وعد من فحول آله.
وله تحاور مع الشيخ إبراهيم الرياحي باش مفتي المالكية رضي الله عنه في نازلة وأرسل له بعد المحاورة فيها النص من مختصر المنار وعندما حمله كتب إليه بقوله: [الوافر]
أحطبُ بما بعثت إليّ خبراً ... من الصور المدارة كالقلاده
فكان الرأي أنْ لا خلفَ فيها ... لما تحويه من حسن الإجادة
فلا زلتم مناراً في رشاد ... ولكن غير مختصر الإفاده
ومن ذلك أنه تحاور مع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي الحضرة في مسألة أصولية شاع فيها بيت من الشعر ولما رجع إلى داره أرسل له الكمال بن الهمام حجة لما اختار، فكتب إليه المولى الجد بقوله: [الطويل]
كمالك بدر بل من البدر أعظمُ ... وقدرك دهرٌ بل من الدهر أفخمُ
وهمتك استهوته لا بتكلّفٍ ... وعلمك بحر بالجواهر مفعم
ولو سأل الغمر العموم من الذي ... به يقتدي علماً أجابوه بيرم
أرى مذهب النعمان منك مؤيداً ... تحررّه أصلاً وفرعاً وتحكم
إذا كنت في جمع فأنت فصيحهم ... وغيرك في يوم المجامع ملجم
ألا أيّها المفتي الهمام محمد ... ومن هو في فصل العويص المقدم
ظفرتُ بها أرسلتَ لي من كمالكم ... جواباً به كشف الغوامض محكم
يباهي لهارون الرشيد امتحانه ... أبا يوسفٍ في الحسن والله أعلم
فإن ترفقني يا هند فالرفق أيمنٌ
وقد خطبه الأمير حسين باشا باي في ابنته لأكبر بنيه المشير الثاني محمد باشا باي فزوجه بها وصاهره، وأظهر له من البذاخة والثروة في تجهيز ابنته المذكورة ما يتلى حديث في الحاضرة. وزفها لبيتها ليلة الخامس عشر من شعبان سنة ١٢٣٩ تسع وثلاثين ومائتين وألف، واتفق ليلة زفافها أن خسف القمر وأحسن العالم الشيخ إبراهيم الرياحي في تعليل الخسوف المذكور في خطاب الأمير إذ قال من قصيدة تهنئته في وصف سرور الزفاف المذكور:
سما فوق السماء فلا عجيبٌ ... لغيظ البدر إذ أبدى سواده
ومن ظن الخسوف بدا لشر ... فخير الخلق قد رد اعتقاده
وكتب إليه يهنيه بزفاف ابنته فقال: [الوافر]
سلامٌ طيبهُ كالمسك صائك ... على العلم الشهيرِ ومن هنالك
ولله الذي هنّاكَ حمدٌ ... على تيسيره صعبَ المسالك
فإنّك قد ركبت من المعالي ... متوناً غيرُ صاحبهن هالك
فقمت لها قيام ذوي اهتمام ... لهم في نيل أفضلها مدارك
وبالله استعنت فكان عوناً ... وأهلُ العلم مثلك أهل ذلك
فجاءت مثل ما يهوى محب ... ينادي بالدعا اللهم بارك
فيالك من هناء نلت منه ... سرورَ الوصل من حبٍّ متارك
أدام الله عزك في مزيد ... وحسنك في الوجود بلا مشارك
ولما توفي المفتي الثاني قدم الأمير حسين باشا باي صاحب الترجمة مفتياً ثانياً والده، أواخر شعبان الأكرم من سنة ١٢١٤ إحدى وأربعين ومائتين وألف، فاعتضد به والده واستعان بشباب ولده على مرامه ومع ذلك فإن احترامه لوالده كان عظيماً وحسبك أنه والد جسده وروحه فكان أصل جسده وعلمه.