وهذا ما يدل على أن الفقهاء من التونسين كانوا على جانب عظيم من علم الاجتماع متأثرين بسلفهم العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (-٨٠٨) فكلهم من فبضه يغترف، ومن مناهله يرتشف، فعلماء تونس الفقهاء كانت معرفتهم الاجتماعية تؤهلهم للنظر البعيد وللتفقه في الدين التفقه الصحيح، فما يرميهم به الرامون غنما هو لمرض في النفوس وحسد كامن في القلوب.
وقصيدته هذه أتى بها المعروف في ديوان محمود قابادو الذي اعتنى بجمعه وطبعه سنتي (١٢٩٤ و١٢٩٥ هـ? (.
وقد ضمنها الكثير من إنشاء المجالس لعهد الأمان ومن أبدعها قوله:
قانون عدل صادق عال سمت ... أساسه رجبا على آسان
١٢٧٧ ونقل عيونها الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في الجزء الخامس صفحة ٤٦.
ومن نصيحته الشيخ قابادو لأهل المجلس قوله مخاطباً أعضاء المجالس:
هذي رئاستكم وعزة مجدكم ... نيطت بكمْ يا معشر الأعيانِ
وإلى أمانتكم وحسن وفائكم ... وكلتْ وغيرتكم على الأوطان
ولتعلموا أن الوفي لنفسه ... يوفي ومن ينكث عليها جاني
والله ليس مغيراً إنعامه ... حتى يغيره ذوو الكفران
وتيقنوا أن الذي غلب الهوى ... والنفس يغلب كل ذي سلطان
هذا وإن الصادقية دولة ... خصت بتأييد من الرحمان
لما رأت مصباحَ شرعِ محمد ... بترعب الهواء ذا خفقان
جعلت له القانون يشبه زجاجة ... لتقيه هب عواصف الطغيان
فتدارسوه لما علمتم بينكم ... عودا على بدء بغير توان
والله يشملنا ويشمل جمعكم ... بالعون والتوفيق والغفران
وبعد أن ذكر الشيخ الوزير صاحب الإتحاف أبياتاً من هذه القصيدة عليها بقوله: وهذه الغانية على طولها أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما سمع من المقال، لو لم يأت بعدها ما ينافيها، والحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع، ومن اعظم الذنوب تحسين العيوب، "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" الشعراء ١٢٤ ١٢٥.
يقصد الشيخ الوزير الذي أتى بعد قصيدة الشيخ قابادو في مدح عهد الأمان قصيدته التي هنأ فيها المشير الثالث حين اخمد ثورة علي بن غذاهم.
وهي التي يقول في مطلعها:
سما للعلا يقظانُ عين حديدها ... فهيهات بعد اليوم تعدى حدودها
أضلّ عقاب الحزم أرجاءها كما ... أضل عقاب البأس فيمن يكيدها
ويقول فيها:
فيا ويحها من عصبةٍ قد تهافتت ... على نار بغي ما سواها وقودها
ولا شك انه يقصد قوله فيها:
وإن فداء الكل بالبعض سنةٌ ... تواتر من شرعٍ وطبعٍ شهودها
وقد كان جلد البعض زجراً وأهدرت ... نفوس بجلد الزجر فاد جليدها
أليس من التعزيز وهو مناهجٌ ... تناط إلى رأي الإمام حدودها
وقدماً قضى سحنون في الدين ضارباً ... مراراً قضى نحبَ المدين عديدها
وأما عقاب المال فهو موسعٌ ... إذا عودت منه بشيء يعيدها
بحيث إذا لم تمتهن باستلابه ... رأت شوكة السلطان فلَّت حدودها
على انه قد كان حط من الجبا ... وإعوازُ بيت المالِ ممَّا يعيدها
فهذه الأبيات فيها تبرير من الشيخ قابادو لأفعال الأمير في التعذيب والمطالب المالية المجحفة التي وضعت على رجال الثورة.
والشيخ قابادو لا أظن أن الحامل له الطمع كما يقال الشيخ الوزير وإنما حمله على ذلك أن هذه الثورة لو تمت لأتت على الأخضر واليابس والبلاد في حال ضنك تشتكي العجز.
فنظرته البسيطة هي التي أدته إلى أن يبرر تلك الفعال، ولو نظر نظرة عميقة مثل نظرة الشيخ الوزير لما برر تلك العمال.
ثم إن تلك الثورة تسبب فيها سوء الإدارة والإسراف المالي المجحف المؤدي إلى نضوب الخزانة المالية مع التصرف الذي لم يكن على قاعدة ومع جولان الأيدي في أموال الحكومة.
وعلى كل فالشيخ قابادو يشيد بعهد الأمان، وإنما يرى أن الفوضى مؤدية إلى الانهيار فموقفه ليس موقف طمع لأنه كان الناس بالزهاد فحياته حياة الذين لا يعتنون بالمال.
وشاركه في الإشادة بعهد الأمان علامة أديب شاعر وهو الشيخ أحمد كريم الذي تولى الإفتاء وكان من مشايخ الإسلام.