هو الأمير حسين بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف، وتربى في حجر اعتناء والده، وهو في نفسه عالي الهمة. ولما استقبل بالملك والده أولاه إمارة الأمحال، فسافر بالمحلة حتى اطلع على سائر حال المملكة، ورتب أحوالها ثم تولى أمر الدولة فباشر الحكم وإدارة أمور الدولة بتخلي والده له، وقام لها قيام الزعيم معتضداً برجال الدولة مثل صهريه حسين خوجة باش مملوك وشاكير صاحب الطابع ومن انضم إليهما من رجال دولة والده، وأحسن التصرف في المملكة والرعايا.
ولما احتضر والده عهد بالولاية إليه، فاستقبل بالملك صبيحة الثامن من رجب سنة تسع وثلاثين وألف، ووفدت الوفود من أعيان سائر جهات المملكة للبيعة والتهنئة، فجرى على سنته المستقيم. ولم يرع الدولة والأهالي إلا فقد شخص والده. فابتدر إلى إنشاء أسطول تألف من عدة سفن وكبح ثورات كثيرة أخذت تمد أعناقها لروع أمن دولته فصد جميعها بحزمة وعدده.
واحتفل لعرس ابنه بنيه المولى محمد باي احتفالاً بعد العهد بمثله بحيث إنه أظهر فيه من بذاخة الملك وارتفاع شان الدولة وبستطها وعزها ما لا يحيط بوصفه القلم.
ولما أقبل المهاجرون من الجزيريين أوائل سنة ست وأربعين قابلهم بإحسانه وفضله وأحلهم محل الأمن.
ثم إنه اتخذ العسكر النظامي من أهل المملكة، ووفدت عليه الخلعة النظامية في جمادى الأولى سنة وأربعين ومائتين وألف صحبة الداي مصطفى البلهوان كبير جوانب الترك والشيخ أحمد بن أبي الضياف أحد أعيان الكتاب فلبسها في يوم مشهود وتبعه في اللباس المذكور سائر رجال دولته، واعتنى بالنظام وأسس تربته، وابتنى لسكنى العسكر النظامي قشلة المركاض التي لم يعهد لها مثل في الاتساع وإحكام البناء وحسن التنظيم.
وأقام بناء البرج العظيم الذي قرب السيدة المنوبية قرب باب القرجاني وما حوله من السور، وأقام أبنية كثيرة بباردو وحمام الأنف وغيرهما، وبني عدة زوايا للأولياء بالحاضرة وغيرها لا زال اسمه مخلداً على بنائها، إلى غير ذلك من الفاخر التي غرست حبه وحب ذريته في قلوب كافة أهل المملكة التونسية ولا سيما أهل حاضرتها فإن دولته معدودة عندنا من مواسم الأيام.
وهو الذي أطلع أقمار ملوكها شموساً في دياجي الظلام، فكان بنوه في الخضراء هم زينة أفقها، الراكبون أعز بلقها، هم الملوك العظام، والسعداء الكرام محمد باي، والصادق باي، وحمودة باي، والمأمون باي والطيب باي، والطاهر باي، والعادل باي، ومحمود باي، ومراد باي، وهم الذين ذاع على أردانهم عابق البشر، وعوذهم الله بعدد العشر.
أما محمود ومراد فقد توفيا في الصغر، وأما العادل باي فقد توفي سنة أربع وثمانين، وأما المأمون باي فقد توفي سنة ثمان وسبعين، وأما الطاهر باي فقد توفي سنة وثمانين ,أما حمودة باي فقد بلغ إلى ولاية الأمحال وتوفي سنة خنس وثمانين ومائتين وألف، أسبغ الله على جميعهم الرحمة والنعيم، وأدام عز لملك بمن بقي من ألهم الكريم.
وكانت ولادة المرفع أبي الحسين ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وارتقى إلى ولاية الأمحال بعد وفاة أخيه أبي محمد حمود فهو اليوم ولي العهد، أدام الله به ابتهاج ذلك المجد. وكانت ولادة المرفع الطيب الغراسة في ثامن ذي القعدة الحرام سنة وثلاثين بعد الألف والمائتين، أدام الله به للملك أكرم جفن قرير، في ظل دولة مولانا المشير.
وقد تزينت البلاد في دولة صاحب الترجمة مرتين سروراً بسلامته أحداهما حين سلم من عثار كروسته، والثانية لما نقه من مرضه، وفي كلتيهما أظهرت البلاد من مفاخرها ما لا حد له من الفرش والآلات والتحف والأكسية مما يدل على كمال علو همة أهاليها وغاية لطفهم وودهم لأميرهم.
وكان شهماً هماماً وقوراً، عالي الهمة، محباً لأعالي الأمور، محافظاً على شارات الملك، كرم النفس لطيف الأخلاق، شجاعاً مهيباً، سمحاً كثير العطايا، محباً لخير البلاد وأهلها، حليماً، أمنت في دولته البلاد والعباد، وهو بين بنيه قرير العين جذلان الفؤاد. إلى أ، حضر أجله فصار إلى جنة المأوى ودفن بالتربة عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الخضار بقوله:
أيقظ فؤادك لات حين منام ... وأبك الرسوم بكل طرف هام
وانظر إلى الأيام ماذا أنزلت ... من شاهق لا درَّ للأيام