فلما دخلها الصحابة وحدوا الرهبان في صومعتها لأن صومعة الجامع قديمة كانت للرهبان..
وكان قبلة الصومعة محل محصن بالحجارة والشوك فسأل الصحابة أولئك الرهبان عن سبب ذلك، فقالوا لهم إنا كل ليلة من ذلك المحل نوراً ساطعاً لعنان السماء فرضعنا ذلك صوناً له من الكلاب أن يقذروا في ذلك المحل واتفق أن كان ذلك المحل هو المحراب، (الحلل ج?١ ص٥٥٨ ط٢) .
هذا ما جاء في الحلل السندسية في الأخبار التونسية وهو لا يتصل بشيء من الحقيقة التاريخية حيث جعل تسمية هذا المسجد الجامع منذ الطوفان مع أن تسميته بجامع اليزتونة غير متعارفة في القرون الولى بل المعروف أنه مسجد تونس، ثم إن تلك القصة لا تتصل بالحقيقة بل هي من نسج الخيال.
ثم إنها كلها عليها أثواب الوضع ونشك في نقلها عن الشيخ سعيد الشريف فإنه كان محدثاً راوية والرواة من أهل الحديث لا ينقلون شيئاً إلا مسنداً وسعيد الشريف هذا توفي سنة (١١١٣) كما في إتحاف أهل الزمان لا في سنة (١١١٢) كما في شجرة النور الذكية.
وإذا تتبعنا كتب التاريخ ثبت لدينا أن هذا المسجد لا يسمى بجامع الزيتونة وإنما يعرف (بمسجد جامع تونس) .
ذكر أبو العرب في الجزء السابع الذي خصه بذكر علماء تونس في ترجمة زيد بن بشر فقد روى حين وصفه بأنه أكرم الناس ما يؤيد كرامة نفسه: لقد حدثني سليمان بن سالم وغيره أنه انصرف ليلة من جامع تونس فانقطع شسع نعله فوثب إليه رجل حائك من حانوته أعطاه شسعاً فأصلح نعله وكان رجل معه يحمل قنديلاً فقال لحامل القنديل: قرب القنديل إلي فقربه منه فنظر إلى وجه الحائك ليعرفه فيكافئه، فكان كلما مر إلى المسجد ومعه الجماعة مال إلى الحائك، فيسلم عليه، ويسأله عن حاله شكراً للشسع الذي أعطاه.
(طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب التميمي ص٢٥٦ ط باريس وص٢٢٦ ط تونس) .
وما جاء في طبقات أبي العرب جاء مثله عن محمد بن حارث في ضمن الطبقات التي لأبي العرب عند ترجمة أبي العرب ليحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الذي دخل تونس.
قال محمد بن حارث كنت في جامع مدينة تونس مع بعض العلماء من أهلها فقال لي: "هذا الباب وأشار إلى باب مغلق لا يفتح هو باب يحيى بن سعيد وكان يدخل منه إذا كان بها" (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب ج?١ ص٢٦) .
وإذا التفتنا إلى البكري أبي عبيد عبد الله الأندلس لا يذكر إلا أن ابن الحبحاب بنى الجامع بتونس قارناً لبنائه ببناء دار الصناعة.
ولما وصف بناءه قال: وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه (المسالك ص٣٧ وص٤٠) .
وكذلك لم يسمه ابن عذاري المراكشي في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب إذ يقول: وهو أي عبيد الله بن الحبحاب الذي بنى المسجد الجامع، ودار الصناعة بتونس (ج?١ ص٥١) .
وابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع (-٦٩٥) وكان ينقل عن الرقيق الذي كان حياً سنة (٣٨٨) .
والرقيق من أهل إفريقية قيرواني عليم بأماكن تونس وتواريخها فلو كان الجامع يسمى بجامع الزيتونة لذكر أنه جامع الزيتونة.
وإذا التفتنا إلى كتب المناقب القديمة التأليف لقدماء الصلحاء بتونس نجد كتاب أبي الطاهر الفارسي حين ذكر مسجد تونس لا يذكره إلا باسم جامع تونس دون جامع الزيتونة، فإنه حين تحدث على ما أحدثه الشيخ أبو محمد محرز بن خلف الصديقي المتوفى سنة (-٤١٣) يقول: قال أبو الطاهر: وأعظم شيء أذكره من كراماته الدالة على فضله وولايته أن القرآن كل يوم يقرأ على قبره، ويختم كل جمعة منذ توفي إلى الآن ثماني عشرة سنة، لا ينقطع يوماً لعلة من العلل، لا في صيف ولا في شتاء ولا في شدة ولا في رخاء ولا غير ذلك، وهو دائم إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن استنباطه رضي الله عنه بمقصورة الجامع الأعظم بتونس حزب السبع لا ينقطع في كل يوم إلى آخر الدهر.
وكان تأليف أبي الطاهر الفارسي في سنة ثلاثين وأربعمائة بعد وفاة الشيخ محرز بن خلف رحمه الله تعالى بسبعة عشر عاماً.