وقد ولد صاحب الترجمة غرة ربيع الثاني سنة ١٢٠٩ تسع ومائتين وألف، ونشأ في طلب العلم فقرأ على فحول الرجال منهم الشيخ حسن الشريف والشيخ محمد بيرم الثاني والشيخ الطاهر بين مسعود والشيخ محمد الفاسي والشيخ محمد بيرم الثالث والشيخ إبراهيم الرياحي، وبرع في المعقول والمنقول، وظهرت مزيته في الفروع والأصول، وتقدم إماماً بجامع الحنفية ببلد سليمان فأضاع علمه مدة سكناه تلك القرية.
لكنه تدارك أمره بعد حين وأرسل بتسليمه وحضر بجامع الزيتونة فوفد عليه أعيانه وتواردوا على دروسه توارد الظمآن على الماء فجلس للتدريس، بتحريره النفيس، وتصدى لإقراء عويصات الكتب وتدقيق غوامض المسائل بواقد فكره السيال، وفصيح تقريره السلسال، فقضاها سنين متطاولة يبث العلم في صدور الفحول، ويسترزق بالإشهاد وهو من أيمة الموثقين العدول.
وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة ١٢٥٨ ثمان وخمسين ومائتين وألف فأفرغ كليته للاشتغال بالتدريس عامة يومه اكتفاء بمرتبه لقناعته. وأخذ عنه فحول سبق ويأتي ذكرهم في تراجمهم، وتقدم خطيباً بجامع حمودة باشا المرادي صبيحة يوم الجمعة من سنة ١٢٦٦ ست وستين ومائتين وألف صبيحة يوم وفاة خطيبه الشيخ حمودة بن أحمد البارودي فخطب الخطب البليغة من إنشائه.
ثم قدمه الأمير أحمد باشا باي مفتياً خامساً يوم الأحد الخامس والعشرين من رجب الأصب ١٢٦٧ سبع وستين مائتين وألف، وأنف من تأخره عمن قبله حتى كاد أن لا يقبلها وعند ذلك اعتكف على الإفتاء مع التدريس وظهرت له في الفقه آية كبرى فخطب الخطب البليغة، وعند وفاة من تقدمه للفتيا وهو الشيخ محمد العباس صار مفتياً رابعاً ثم عند وفاة الشيخ أحمد الأبي صار مفتياً ثالثاً، ثم عند وفاة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع صار فتياً ثانياً ثم عند وفاة شيخ الإسلام محمد بن الخوجة قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي لمشيخة الإسلام أواسط المحرم سنة ١٢٧٩ تسع وسبعين مائتين وألف، وتنقل خطيباً وإماماً ومدرساً بجامع صاحب الطابع وشيخاً بمدرسته، وخلفه في خطبة الجامع الباشي الشيخ عثمان بن محمد البارودي إمام سراية باردو فزان الخطط بعلمه وفضله وخطب من إنشائه خطباً بليغة.
وآثاره العلمية أعدل شاهد على تضلعه في العلوم المعقولة لاسيما أصول الدين والبيان فقد حرر حاشية على مختص السعد البياني، وحاشية على السعد على العقائد النسفية، وحاشيتين على شرح عصام للسمر قندية كبرى وصغرى نحا في جميعها منحى الأعاجم من الميل إلى الاكتفاء بالرموز بحيث إن من لم يكن على بصيرة وانفصال في كلام الحواشي لا يقدر أن يحوم حول مغزاه في لطائف مقاصده الخفية ورموزه التي كر فيها بالإبطال على كثير من كلام السيد وعبد الحكيم فضلاً عن غيرهما وحسبك بهذا عنواناً على علمه، وقد شرح رسالة فواتح السور للشيخ محمد بن ملوكة، وله رسالة في الحسن ولقبح العقليين سلك طريقته في تسلسل الأبحاث.
وقد قرضها تلميذه الشيخ سالم بو حاجب بما نصه: الحمد لله الموفق لدقائق حكمه البالغة، والموصوف بجلائل نعمه السابغة، التي من أجلها هاته الرسالة الشريفة وفهم المراد من إشاراتها اللطيفة، حتى انجلت عن الألباب ظلم الحيرة المدلهمة في خلاف لا يكاد مثله بين أولئك الأيمة، كما من مطالعتها تراه، وتحمد عاقبة سراه.
هذا ولما أطلعني على مكنون سرها، ناظم مكنون درها، شيخنا البحر العلامة، وحبرنا النحرير الفهامة، القدوة اللوذعي، والجهبذ الألمعي، معدن التقى والإصلاح ومنبع الهدى والفلاح، النقادة الدراكة الراوية أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد معاوية، أبقى الله بركته، وقرن بالسعادة سكونه وحركته، ورزقنا رضاه، ورضي عنه وأرضاه، فجمل الابتهاج بها فاتر الفكر، على القيام بواجب الشكر، فسلك اللسان مهامه الثناء على مولي النعم، وأنا بفي شكر مؤلفها لسان القلم، فجعل يركع في محرابها ويسجد، ويستملي في محاسنها وينشد: [الكامل]
طلعتْ تديرُ سلافةَ الألبابِ ... وتنيرُ بالتوفيق أفقَ صوابِ
دقَّتْ معانيها ورقت منطقاً ... يسبي العقول ويا له من سابي
حلو المذاقة مرها لمسلّمٍ ... ومعاندٍ كالشّهدِ أو كالصاب
يهمس فيلقح في القلوب رشادها ... كتفتُّق الأزهار غبَّ سحاب