وقدمه لمشير الأول أحمد باشا باي إلى خطة القضاء في الحادي عشر من ذي القعدة الحرام سنة ١٢٦٢ اثنتين ستين ومائتين وألف فباشر الخطة بفقه وتثبت ودين مع كمال العفة والتحري لدينه وأقام على الخطة المذكورة خمس عشرة سنة منها نحو العشر سنين يسكن بدار خربة لم يقدر على رمها واكتفى بسقيفتها للجلوس للحكم إلى أن أفضت الدولة إلى المشير الثاني محمد باشا باي فتكرم عليه بدار فاخرة فشكر فضله بقصيدته التي قال في مطلعها: [الطويل]
تبلّج ليلُ النصر عن صادقِ الفجرِ ... فأصبحتِ الأيّام باسمةَ الثغرِ
ولما توفي الشيخ محمود بن باكير قدمه المشير الثالث لخطة الفتيا منتصف ربيع الأول سنة ١٢٧٧ سبع وسبعين ومائتين وألف وتقلب في خططها إلى أن بلغ مفتياً ثانياً.
وتقدم إماماً وخطيباً ومدرساً بالجامع اليوسفي، كما ولي مشيخة مدرسة الباشا الحنفية.
وهو عالم عامل فاضل محافظ على ديانته متثبت في قضائه وفتاويه، حسن الخطبة حافظ للتاريخ، قد اكتفى بقاعته في حفظ مروءته لم يحفظ عنه أنه طرق باب أميره أو وزيره، ولا تأخذ في الله لومة لائم، شعره رقيق، ونثره أطيب من المسك الفتيق.
وله تحارير في كثير من المسائل، استدرك بها ما تقدم عن الأوائل، وله أختام بديعة الانتظام وقد لازم الإفتاء وكان عماداً في الفتيا حتى أن شيخنا أبا عبد الله محمد البارودي لما ولي خطة القضاء لم يعتمد على غيره واتخذه مرجعاً يسعى إلى داره في كثير من الأوقات وقد أفاده في فقه القضاء فائدة سمعته يشكر فضله فيها كثير كما هو شأن الفضلاء أمثالهم في الاعتراف بالفضل لذويه.
وقد توفي في أوائل ذي القعدة الحرام سنة ١٢٨٦ ست وثمانين ومائتين وألف وقد رثاه العالم الشيخ سالم بو جاجب بقوله: [لكامل]
الحدسُ يجمع والزمان يفرِّقُ ... والنفس من خوف التفرق تفرقُ
ودوائرُ الآمال بها وسَّعتْ ... ما وسّعت لا شيءَ منها أضيق
لا يأمنُ المشتف كأس مسرة ... أن يقذيَ الأقداح حزن يدمق
وبقدر حسن الشيء يخشى نهبه ... زله الردى حجبَ التوقي يخرقُ
كم ذي حجا لزم الخمول مجانباً ... ما في المظاهر من سهام تمرقُ
وإذا أحس الدهرُ منه بشهرة ... في الناس عاجله بصدق يوفق
أو ما ترى طودَ الهدى نسفته في ... زحلوقةٍ هيف المنون الزَّحلق
فارتدَّ روضُ العلم يبساً ذاوياً ... وبواتر الفتيا عداها الرونق
ولمذهب النعمان أي كآبة ... وتلهفٌ وتحسّرٌ وتحرّقُ
لأفول شمس الدين والدنيا التي ... كانت على أرجاء تونس تشرق
لكت الدفاتر والحابر والمزا ... بر والمنابر لو جمادٌ ينطق
فاستفتِ دارسَ رسمها في مشكلٍ ... هل يخبرنكَ اليوم بيدٌ سملقُ؟
أين الذي يا كتب كان يجيبنا ... عنكم بما هو للتّحير أمحقُ؟
أين الذي قد كان يفتح منكمُ ... بمقالدِ الأقلام ما يستغلقُ؟
أين الذي يجلي بكحلِ مداده ... ما في عيونك من عيون تغلقُ؟
يمسي ويصبح مصلحاً ما شانها ... أو بين مختلفِ النقول يوفِّق
أين الذي يا كتب كان مسامراً ... لجموعكم بحديثها يتأرَّقُ؟
أين الخبيرُ بما تكنُّ سطورها ... وبما يقيد حكمها أو يطلق؟
مالي أراها لا تجيب تصامماً ... أم مات منْ لأصمِّها يستنطقُ
كنزُ المعارفِ مصطفى نجلُ الذي ... هو في محاميد البيارم أسبق
ذاك الذي جمع الخمول وكونه ... ينبوع علم للورى يتدفق
جمع البشاشةَ والتودُّدَ للورى ... مع همَّة بالفرقدين تعلق
جمع البلاغة والشجاعة والتقى ... وتغزل الآداب وهو موفَّق
وله بتاريخ البلاد درايةٌ ... وروايةٌ لحوادثٍ تتنسّق
وعوائدٌ فيها تنوسيَ أصلها ... وفوائدٌ ما إن حواها مهرق
لا عيب فيه سوى الأناة مع الحيا ... أوْ أنه بالعلم لا يتشدق
أو أنه في كل فن قدوة ... وبعلمِ فقهٍ شأوهُ لا يلحقُ
نصبتْ منصَّات النصوص لديه نص? ... ب العين بالإفتاء برقاً يبرق
فاسأل جميع الناس هل حفظوا له ... من زلة حيث النهى تستزلق
هل ريءَ منه سوى الرضى عند القضا ... أو كظم غيظ أن جفاه الأحمق؟