ثم إن صاحب الترجمة لما امتلأ علماً بحاضرتها خرج منها لحج بيت الله الحرام، ودخل مصر واجتمع بعلمائها وأقرأ بالجامع الأزهر غير أنه لم يطب له المقام بها فتخير الرحيل لسكنى حاضرة تونس وقدم إليها على عهد الباشا علي بن محمد علي تركي. ولما دخل الحاضرة أراد النزول بمدرسة بئر الحجار ولما علم شيخها يومئذ الشيخ مسعود المغراوي الباجي بعلو رتبة الرجل في العلم منعه من إعطاء بيت بها خشية منه وعند ذلك وجه الشيخ طلبيته إلى الباشا وكان عالماً ومحباً للعلماء وبمجرد ما علم رتبته أعطاه مشيخة المدرسة كلها وندم شيخها على منعه حيث لم ينفعه الندم.
وعندما استقر الشيخ طلب منه الباشا أن يقرئ شرحه لتسهيل ابن مالك فأقرأه بجامع الزيتونة وأقرأ كتباً أخرى عالية ظهر بها علمه وفضله واجتمع عليه للأخذ عنه فحول العلماء ثم قدمه الباشا للفتيا وصار رئيس أهل الشورى من المالكية وكان عالماً عاملاً عفيفاً أديباً فاضلاً حسن الشعر عارفاً بالتاريخ حسن المحاضر صالحاً لا تأخذه في الله لومة لائم، قيل: إنه دخلت عليه للمجلس الشرعي نازلة كان الباشا يريد تأخيرها فأراد أن يقوم فسخاً للمجلس ليتأخر فصلها والنازلة قد اتضح فيها الحق لصاحبه وبمجرد قيامه جذبه الشيخ من طرف ثوبه وقال له: لا بد أن تجلس حتى ينفذ الحكم في هاته النازلة حيث ظهر فيها الحق لصاحبه فلم يسع الباشا إلا أن جلس ونفذ الحكم ووجد الباشا من ذلك في نفسه وعند انتهاء المجلس لما خرج الشيخ قال الباشا لمن بقي معه من المشايخ أو يعجبكم صنيع الشيخ إذ جذبني من طرف ثوبي لكن أنا عزلته ولما خرج الشيوخ واجتمعوا صحبة الشيخ قال لهم ماذا قال لكم الباشا فقالوا له لم يقل سوءاً فقال لهم على البديهة أو أنه عزلني لكن هو عزلني وأنا عزلته فلم تمض مدة حتى أقبل السعد على البلاد بدخول آل حسين وعزل الباشا المذكور وأبقى الأمير الحسيني الشيخ في رتبته إلى أن حضرته الوفاة.
ودروسه بجامع الزيتونة يأتيها الناس من كل فج، فأقرأ شرح التسهيل للباشا وختمه وختم مغني ابن هشام، والقطب على الشمسية، وغير ذلك من الكتب المعتبرة وقد حضر في جميع ذلك العالم الأديب الشيخ المختار العياضي ومدحه في بعض أختامها سنة ١١٥٢ اثنتين وخمسين ومائة وألف بقصيدة غريبة وهي قوله: [الطويل]
خليليَّ هل صب يحق عتابهُ ... وفي الأعين المرضى تقضَّى شبابهُ
يبيتُ على فرش الهوى ويدُ النوى ... وسادٌ لهُ والفرقدان ارتقابه
ويسكوه خمر الهوى فيبيت للس? ... هاد سميراً والنجوم صحابه
وفي قلبه نار يشبّ لهيبها ... وفي الخد ودمع لا يزال انسكابه
تملكه حب ووجد وصبوة ... فاصبح مضنى والسّقام ثيابه
فيا لائميه في صباه ووجده ... دعوه فإن الحب عذب عذابه
تملكه حب اللحاظ فقلبه ... متى شاهد الألحاظ زاد التهابه
ويسبيه إذ يصيبه بالوجه أهيفٌ ... بثوب جمال قد كساه شبابه
بديع جمال ما رأى البدر وجهه ... لعمرك إلا كان منه احتجابه
له مبسم حقاً هو الخمر نكهةً ... وسكراً ولكن الثنايا حبابه
ويغنيه عن زهر الرُّبى روضُ خده ... وعن شربه خمر الكؤوس رضابه
ويسحر أربابَ الغرام بطرفه ... كأنَّ إلى هاروت كان انتسابه
خليلي كم قضيت منه لبانتي ... بروض كأن المسك منه ترابه
وبتنا وكاسات المسرة تنجلي ... إلى أن رأينا الليل طار غرابه
وقمنا وثغر الفجر يصقله الضيا ... ورحنا وكف الصبح زال خضابه
وفاح الرّبى طيباً فقلنا أهذه ... علوم أبي العباس أم ذا خطابه؟
إمام حوى كل الفضائل مجده ... وأمست ثياب المجد هي ثيابه
ترى العلم بحراً وهو خائضُ لجِّه ... ولكن تحقيق العلوم عبابه
إذا ما رأينا العلم أوثق رحله ... إليك أبا العباس كان ذهابه
ولو سئل التحقيق منْ روحُ جسمه؟ ... لكان أبا العباس حقاً جوابه
إمامٌ سوى أن الفصاحةَ تاجه ... هزبر سوى أنّ البلاغة غابه
له هيبة في وجهه وجلالةٌ ... فلو شاهدته الأسدُ كانت تهابه
فلو سيبويهٍ لم يكن مر واختفى ... بقبره واستولى عليه ترابه