وله في العلوم المعقولة من الأصول والبيان والمعاني والنحو مدركة تشتعل اشتعالاً يستحضر بها سائر الأبحاث وما عساه أن يقال في المسألة في آن واحد من غير مطالعة، ولطالما نقلت له كلام السعد وقبل أن أذكر ما أورده عليه السيد وما تحمله الشيخ عبد الحكيم وما يمكن أن يكون قد خطر ببالي فيعاجلني بإيراد جميع ذلك كأنما كان يسامرني في تلك المسألة مع طول عهده بها، أما درسه فلم يكن على رتبة علمه لأنه لا يمكن له أن يقصر كلامه في المسألة التي بين يديه حتى ينفصل منها بل كان ينتقل من حال إلى حال في آن واحد فيذهب مع كل خاطر ويخرج عن المقصود وذلك من سعة علمه وعدم تقيده بالتدريس.
وله معرفة تامة بالعلوم الرياضية وما ألحق بها غير أني لا علم لي بها ولم ندر ما هو عليه فيها.
وقد اشتغل في مبادئ أمره بإقراء البشير بن سليمان كاهية ولازمه للتعليم وسلك به مسلكه في الولوع بأهل الله وخدمتهم حتى كان من أعيان السالكين في الطريقة الشاذلية.
وقد ألّف فيها كتاباً سماه سفينة المريد والعلم المفيد، وقد وقفت فيه على إجازة له من صاحب الترجمة أستاذه في الطريقة المدنية كتبها له في حدود عام ١٢٥٠ فأحببت أن أثبتها هنا وهذا نصها: الحمد لله مستحق الحمد ووليه، والصلاة والسلام على نبيه، أما بعد فيقول عبد ربه محمود بن علي الشريف الشهير بقابادو والد قاوي الراجي رحمة مولاه، الراقب له في سره ونجواه، إني أجزت أخي في الله وسويداء فؤادي وأعز الناس عندي سيدي محمد البشير بن سيدي سليمان كاهية في قراءة المخروجة المدنية على الصلاة المشيشية التي هي من لوازم طريقتنا بالإذن من المؤلف شيخي وقدوتي ونور بصري وبصيرتي المربي سيدي محمد بن حمزة المدني القاطن بطرابلس الغرب بجبل غريان هناك، أبقى الله لنا وجوده، وأدام شهوده، لانخراطها في سلكها الشريف إجازة تامة كما أجازني بها شيخي عن مشايخه والله يتولانا وإياك بلطفه ويجمع قلوبنا عليه ويشرح قلوبنا بأنوار معرفته كما أجزته وأذنته بذكر الورد في أوقاته وذكر اسم الاستغراق على الحالة المعهودة وتلقاها مني بالإذن من الشيخ والله يبلغه ويمده بمحبة الشيخ إنه المنعم الكريم ا. هـ.
وبينما كان الشيخ في تعليم تلميذه المذكور وإطلاعه على بعض علومه الحرفية حتى أحس من المشير الأول ما حمله على الخروج فارتحل إلى إسلامبول وأقام لها مدة، ثم رجع إلى تونس وتقدم شيخاً في مكتب الحرب يقرئ المهندسين ما يحتاجون إليه من النحو واللغة والفقه وغيرهما. ثم قدمه المشير محمد باشا باي مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء سنة ثلاث وسبعين فأقرأ بالجامع وتقدم لمشيخة المدرسة الجديدة بعد وفاة الشيخ محمد بن صالح بن ملوكة الشارني سنة ست وسبعين وأقرأ فيها وختم فأبدع في أختامها.
ثم قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لخطة قضاء باردو يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة ١٢٧٧ سبع وشبعين ومائتين وألف فلازم القيام بالخطة، وتقدم لإنشاء الرائد وتصحيح المطبوعات بمطبعة الدولة التونسية، ثم تأخر عنها لأشغال خطة قضاء باردو ثم تقدم مفتياً خامساً تاسع شعبان الأكرم سنةةة ١٢٨٥ خمس وثمانين ومائتين وألف.
وقد أدركته قبل الفتيا فلازمته ليلاً ونهاراً في غير أوقات دروسي وقرأت عليه دروساً من الجربي على أيساغوجي ودروساً من القاضي على الخزرجية وفي آخر أمره قرأت عليه دروساً من القطب على الشمسية ودروساً على المطول واستفدت مع ذلك بمراجعته ومحاضرته وكان عالماً متبحراً فهامة شاعراً مفلقاً غراً كريماً عزيز النفس سريع البكاء شفوقاً ينخدع لكل مخادع رخي العيش لسعة ذات يده، أغلب كسبه أنفقه في شراء الكتب فاكتسب كتباً لا حد لها تلاشتها الأيدي من بعده، وقد اجتمعت معه مدة لترتيبها فلم يتم ذلك.
ولم يستكمل الستين ٦٠ سنة من عمره وأتاه محتوم الأجل فتوفي في صبيحة الأربعاء ثالث رجب الأصب سنو ١٢٨٨ ثمان وثمانين ومائتين وألف ودفن بالجلاز بتربة الشيخ سيدي الونيس ابن السعدي الشريف المشيشي رضي الله عنه رحمة الله عليه، ورثاه الشيخ سالم بو حاجب بقوله: كك [السريع]
نبل قسي الموت هدَّافها ... يصمي وأهل الفضل أهدافها
والدهر مهما ينتبذ درة ... من جيده لم يُرجَ إخلافها