وكان له في العلم ستة أشبال امتحن بفقد أربعة منهم في الطاعون الجارف، وهم العلماء مصطفى وحسن والطاهر وأحمد كلهم نشأوا بين يدي والهم وحفظوا المختصر الخليلي وقرأوه على والدهم كما قرأوا على تلامذته كالشيخ محمد بن ملوكة والشيخ الطاهر بن مسعود، وقد توفي أولهم في صفر الخير سنة ٣٥ خمس وثلاثين وكان فقيهاً فرضياً وفي اليوم الرابع لحق به أخوه الثاني وفي ربيع الأول لحق بهما أخوهما الطاهر العرض وكان أديباً شاعراً متفنناً في الخط، وفي رجب لحق بهم أخوهم الرابع وكان موثقاً فرضياً، وقد صبر الشيخ على فقد أربعتهم.
وبقي بين يديه من أبنائه عالمان وهم الشيخ محمد والشيخ محمود وكلاهما على طريقة إخوتهما في الفقه والفرائض مع البراعة في الإنشاء وقد ترقيا لخطة الكتابة فكان الشيخ محمد كاتباً في المحلة وصاحبَ أحمد باشا في الأمحال سنين كثيرة وعليها توفي رحمه الله.
وأدركت الشيخ محمود كاهية باش كاتب بديوان الإنشاء وهو مرجع في مشكلات الفرائض، وله يد في الفقه، كثير الكتابة في المسائل الفقهية. صاحب أناة ووقار، ملازم للمطالعة وأكثر مطالعته الكتب الفقهية، ملازم حضور الخمس في الخلوة المحرزية التي في رحبة الغنم، لا يتخلف عن صلاة الصبح فيها شتاء وصيفاًن مع ملازمته تلاوة القرآن وله وجاهة واعتبار في النفوس يعظمه الجليل والحقير لعلمه وديانته ووجاهته. وقد دعاه الأمير محمد باشا باي لإقراء ولده حسين باي العلم فجلس به مجال معدودة، وللأمير الصادق باشا باي به عناية لما له من حسن الملاطفة معه. ولاختصاصه بمعرفة دقائق الحساب اختص برئاسة قسم المحاسبات في الدولة حين تقسمت وزارتها سنة ١٢٨٦ ولما استقر المجلس الشوري سنة ١٢٩٦ انتظم في سلك أعضائه وأقام على وظائفه إلى وقوع انقلاب أواسط سنة ١٢٩٨.
وكانت ولادته عام ١٢١٥ خمسة عشر ومائتين وألف في أواسط سنة ثمان وتسعين تنقل بأهله إلى سكنى المرسى ثم أصابه فالج عطله فعزل بسبب تعطله من خطة كاهية باش كاتب وأقام مضاجعاً للمرض، إلى أن أتاه محتوم الأجل صبيحة يوم الأربعاء الثالث من جمادى الثانية سنة ١٣٠١ إحدى وثلاثمائة وألف ودفن عشيته وشيع جنازته جميع العلماء والكتاب ووجوه الأهالي إلى القرجاني، وصلى عليه قاضي الحضرة يومئذ.
وخلف ولدين وهما أبو العباس أحمد وأبو عبد الله محمد الطيب وأولهما معدود من أعيان علماء جامع الزيتونة في الرتبة الأولى من خطة التدريس، وبيده مشيخة المدرسة الحسينية الصغرى، ثم ارتقى إلى خطة الإفتاء فصار مفتياً سادساً صبيحة يوم السبت الحادي عشر من صفر الخير سنة ١٣٠٢ اثنتين وثلاثمائة وألف وسر الناس بولايته لتواضعه وحسن معاملته وله مشاركة في الفنون الآلية والنقلية.
هذا وأما جدهم صاحب الترجمة فكان بيده إمامة جامع الحلق وخطبته ومشيخة المدرسة الحسينية الصغرى.
وبعد تخليه عن القضاء لازم التدريس. وكان عالماً نزيهاً فاضلاً قدوة محصلاً فقيهاً فرضياً موثقاً صبوراً زكي النفس عمدة في النقل ثبتاً متواضعاً حسن اللقاء توفي خامس ربيع الأول سنة ١٢٤٠ أربعين ومائتين وألف بعد أن بلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة ودفن بالقرجاني عليه رحمة الله ورثاه العالم الشاعر الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الخفيف]
كم رحيق معطر مختوم ... في كؤوس المنطوق والمفهوم
قد سقاها أبو خريص ندامى ... أطربتهم بسرها المكتوم
في دروس أنوارها ساطعات ... في سماء النهى بحسن فهوم
طالع السعد قال ذاك محلّي ... لا تحيدوا عن قطبها المعلوم
أحمد جامع الجوامع طراً ... سيدٌ في الكمال غير مروم
عضد الدين حجة وهو فخر ... في سبيل الهدى وبث العلوم
أي بحر في العلم لم يجر منه ... أي ظام من ريه مختوم
ذكره المسك في الأنام ... عبيقٌ قدره دونه مجاري النجوم
يشبه الشمس شهرة في البرايا ... في ثناء كاللؤلؤ المنظوم
ثم لبى لما دعاه المنادي ... لقضاء على الورى محتوم
سكن القبر بعد تلك المعالي ... يا لحصن من الهدى مهدوم!
إن هذا المصاب خطب جسيم ... باذل الروح فيه غير ملوم
غير أن المصير للفضل كف ... تغرس الصبر في الفؤاد الكريم